لأن الله أهداها شفاءنا من حيث لا تدرى ولا تحتسب، ولأن الشفاء أهداها أملا من بعد غرق فى بحر يأس مكتئب، ولأن الأمل دفعها لأن تكون مرشدة روحية لكل من سقط فى فخ عذاب المرض.. أعود لأقرأ عليها تلك السطور.. لأن الذكرى تنفع المؤمنين.
هل يمنحنا المرض قوة، أم أننا نعتاد عليه ونتحول إلى أصدقاء ونمحو من ذاكرتنا أيام الضعف والبكاء الذى استقبلناه بها؟ لا إجابة لهذا السؤال سوى أن تعيش التجربة، أن تستيقظ على ورقة تحليل تؤكد إصابتك بسرطان.. صحيح ماذا ستفعل وقتها؟ قبل أن أخبرك بالتفاصيل لابد أن تعلم أنك بعد عام من تعايشك مع المرض ستصبح أكثر تفاؤلا وقوة، لا تسألنى إزاى؟ ولكن اسأل صديقتى التى هاتفتها منذ أيام وسمعت منها كلمات تختلف كثيراً عما سمعته منذ سنة تقريباً حتى شوف بنفسك ما كتبته عنها من قبل.
المشكلة أنها لم تعد تضحك، ولم تعد كلمات «خليل حاوى» تأتى معها بنتيجة، تقول الآن إنه انتحر يأسا وأسفا مع أنها منذ سنوات كانت تقول العكس، كانت تقول إنه مات باختياره ليسجل اعتراضه بدمه على الاجتياح الإسرائيلى لبيروت، تقول إنها الآن تعلم وعن تجربة لماذا يحب اليائسون البائسون الموت؟.. لأنه يأتى بالراحة، يأتى بالصمت الذى لا يحتوى على أى تفكير.
عدت إلى سلم الكلية حيث تجلس وتتحدث عن جبران خليل جبران ورسائل الأمل التى يبعثها للعالم عبر كتابه «النبى»، من كانت تجرى بين الكتب والمكتبات والجمعيات الخيرية وبيتها وزوجها تجلس الآن على كرسيها الهزاز الذى تحبه، صامتة، معترضة، تنتظر أن يصل بها القطار إلى المحطة الأخيرة رغم أن عدد ما تملكه من سنوات لم يصل بعد إلى 28.. هل يفعل المرض ذلك بنا؟
محمد أنا عندى سرطان، بس تعرف أنا مش خايفة، حاسة إنى بطلة فيلم أمريكى من اللى بحبهم هكسب التحدى مع المرض وهبقى قصة ممكن تتعمل فيلم عندنا.. هم ليه صحيح مش بيعملوا أفلام إنسانية عندنا؟ الدكتور قال لى إن بالعلاج هبقى كويسة، بس أنا خايفة على «خالد» مش هعرف أخليه أب زى ما هو عاوز، أنا قلت له يسيبنى، ولو بقيت كويسة يبقى يرجعلى تانى.. محمد إلا هو ممكن يرجع تانى؟ لم أعرف ما الذى جعلنى أتكلم معها، .
جاء صوتها ضعيفا مثلما أصبح أملها فى الشفاء ضعيفا أيضاً.. يظهر يا محمد إن «السبكى» مش هيعملى الفيلم، لأن نهايتى هتكون زى نهايات كثيرة.. عارف السرطان طلع زى إسرائيل بالضبط لا نفع معاه أسلحة كيماوية ولا حقن ولا جلسات مفاوضات علاجية، ولا بكاء ولا تنديد ولا شجب، ولا حتى حجارة.. بينتشر وأنا خلاص مش عاوزة أقاوم، أنا دلوقت عرفت ليه «خليل حاوى» انتحر! هو فقد الرغبة فى المقاومة فاتكسف من نفسه وقرر يمشى، أنا كمان تعبت ونفسى أمشى، مكسوفة من نفسى أوى، مش قادرة أستحمل دمعة بابا المحبوسة ولا أنفاس الخوف اللى بتخرج من صدر أمى، ولا أصواتكم المليانة شفقة.. أنا تعبت لأنى بتعب اللى حواليه.. أنا عاوزة أمشى يا محمد.
أين هى الجمل المحفوظة التى يقولونها فى تلك المناسبات؟.. عفوا لسانى لا يجيد التعامل مع تلك الأكليشيهات وهى تعرف ذلك ولذلك قالت لى ما لم تقله لأحد، فقلت لها: إن رحلت ورايتك البيضاء مرفوعة فلن ترضى عن نفسك وأنت فى الآخرة.. أنا حافظك تماماً!