ناجح إبراهيم

جندى الأمن المركزى.. البرىء المذنب

الثلاثاء، 05 فبراير 2013 06:13 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى أول يوم أعمل فيه كطبيب عام 1979م جاءنى فى الاستقبال جندى أمن مركزى ومعه بعض زملائه فاقداً للنطق رغم صحته الظاهرة، وعلمت منهم أن الشاويش ظل يضربه بالعصا فى المعسكر حتى فقد النطق تماما، ذهبت به إلى صديقى د. على عبدالعزيز وكان معيداً بالطب النفسى بالكلية.. شرح لى حالته وأعطاه جرعة من الكهرباء العلاجية أعادت النطق إليه.. قابلت هؤلاء الجنود كثيراً فى السجن كانوا يعيشون معنا فى العنابر ليلا.. كنا نتقاسم معهم الطعام.. إذا كنا فى شدة أو إضراب ساعدونا.. وإذا كنا فى سعة أعطيناهم من طعامنا ودوائنا.. حيث إنهم كانوا يمكثون فى الخدمة فى عنابر السجن من الخامسة مساءً حتى الثامنة صباح اليوم التالى.. وليس لهم طعام مقرر فى هذه الفترة.. كان بعضهم يحكى لنا مشاكله وكان بعضنا وخاصة فى أيام الشدائد يستعين بهم ويبثهم همه، بعضهم كان يتعمد إيذاءنا فى وقت الشدة.. وبعضهم قدم لنا خدمات جليلة فى الأوقات الصعبة.. كان بعضهم يقبع فى كشك الحراسة أعلى العنابر وكان منهم الفلاح الفصيح كما كان يسميه الشيخ عصام دربالة.. كان يرسل لنا الخطابات ويحضر لنا الممنوعات مثل الراديو أو الأقلام أو الكشاكيل فى وقت الشدة، كان الجنود والشاويشية إذا عاشوا بيننا تغلب عليهم الرقة والرحمة فنتعارف ونتصادق.. ويعرف كل منا ظروف الآخر.. ويبثه متاعبه وهمومه.. وقد أشار هاشم رفاعى إلى مثل ذلك فى قصيدته الرائعة «رسالة قبل الإعدام».. يصف شاويش السجن المكلف بحراسة من يعدم من الإسلاميين فقال:
من كوة بالباب يرقب صيده ويعود فى أمن إلى الدوران
أنا لا أحس بأى حقد نحوه ماذا جنى فتمسه أضغانى
هو طيب الأخلاق مثلك يا أبى لم يبد فى ظمأ إلى العدوان
لكنه إن نام عنى لحظة ذاق العيال مرارة الحرمان
فلربما وهو المروع سحنة لو كان مثلى شاعراً لرثائى
أو عاد من يدرى؟ إلى أولاده يوماً وذكر صورتى لبكانى
أما إذا جاء الجنود من خارج السجن للتفتيش فحدث ولا حرج عن ضرب المعتقلين السياسيين والجنائيين وإهاناتهم وإطلاق أسماء النساء عليهم وضربهم بالدونك والعصى.. لا لشىء إلا لأن هؤلاء من أبناء الجماعة الإسلامية التى تواجه النظام مثلا رغم أن هؤلاء المعتقلين لم يفعلوا أى شىء.. فقد مضى عليهم فى السجون سنوات طوال انقطعت فيها صلتهم بالخارج.. وليس لديهم أى شىء يستحق التفتيش أساسا.. وحينما تراهم يفعلون ذلك تتصور أنهم يفتقدون إلى أدنى درجات الإنسانية والرحمة أو العقل.. حتى إنهم كانوا يفرطون فى ضرب الإخوة المعتقلين إفراطاً يجعل بعض ضباط السجن يحاولون منعهم دون جدوى.. حتى يأمرهم شاويشهم أو ضباطهم، وكان بعض الإخوة يقول للآخر: ما الذى يجعل هذا الجندى المسكين الذى لا يعطيه النظام أى ميزة ولا يستفيد من النظام شيئاً بهذا الجبروت والشدة على سجناء ومعتقلين لا حول لهم ولا قوة، وقد كانت استقبالات السجون واحدة من نماذج شدة وقسوة هؤلاء الجنود.. فضلاً عن الاقتحامات المتكررة لمنازل الإخوة، وقد حكت لى أسر كثيرة أن الأطفال وبعض الفتيات كان يتبولون على أنفسهم فور اقتحام الجنود للبيوت، فضلاً عن صراخ النساء وعويلهم، لقد تفكرت فى حال هؤلاء الجنود الذين كان يأمرهم اللواء زكى بدر وزير الداخلية الأسبق باقتحام مساجد الجماعة الإسلامية بالأحذية فقلت لنفسى: «هؤلاء الجنود ستتمزق نفسيتهم بين طاعتهم لربهم وتقديسهم للمسجد كمسلمين وبين طاعتهم لقادتهم»، وقلت لنفسى: «لماذا يدخلهم أمثال زكى بدر فى هذا الصراع النفسى المدمر والذى قد يؤدى إلى تكفير مثل هؤلاء الجنود من بعض الإسلاميين دون وجه حق فيظلم هؤلاء الجنود أنفسهم ويظلمون من غيرهم».. ويستمر الصراع بين الداخلية والإسلاميين دون مبرر خاصة أن الاقتحام كان يتم بعطاء كثيف من الغازات، لقد كان جنود كتيبة الأمن المركزى بمنطقة طرة يعشقون قائدهم «عمر بيه» ويهتفون له وهم يقتحمون عنابر السجن على السجناء والمعتقلين الغلابة الذين لا حول لهم ولا قوة.. وأخيرا فصل العميد عمر بيه من عمله لأنه كان يسرق مرتبات الجنود «الرديف» التى تصرف لهم فى نهاية خدمتهم وتم ضبطه فى وضع مخل مع سكرتيرته.. وكان بعضنا يقول لبعض: «هذا الرجل ظلم جنوده مرتين.. حينما أمرهم بضرب المعتقلين ظلما.. وحينما سرق منهم مكافآت نهاية الخدمة التافهة.. رغم أنهم منحوه حبهم بلا حدود».. وتأملوا فيلم «البرىء» الذى جسده المبدع أحمد زكى لتروا أنه لخص مأساة هذا الجندى بطريقة رائعة.

لقد تأملت طويلاً فى شأن جندى الأمن المركزى أو جندى قوات الأمن الذى يعد صمام الأمن وعموده الرئيسى والساهر الحقيقى على أمن الوطن فوجدت أن الجميع أدخله فى صراع سياسى لا ناقة له فيه ولا جمل.. وقد يدفع فيه حياته.. أو يتعرض لهجوم الآخرين عليه وهو لا يستفيد شيئا منهً وليست له مطامع فى الدنيا سوى إنهاء خدمته الإلزامية وبدلاً من أن يدافع دوماً عن الوطن جعلته الأنظمة والقوى السياسية المختلفة يعيش فى صراع نفسى ومعارك بالشوم أو الرصاص أو الغاز لا يفهم أولها من آخرها ولا يعد طرفاً فيها ولا يدرك مرامى أطرافها ولا مصالحهم الباطنة فهى أعمق من إدراكه، إنه «البرىء المذنب».. إنه ينتقل من بساطة القرية ووداعتها ليزج به السياسيون فى أعقد المشاكل وأصعب القضايا وأشد الصراعات التى يحار فيها الحكماء.. فلا يدرى الجندى أين الحق وأين الباطل.. فما كان باطلاً فى السياسة منذ سنوات أصبح حقاً.. وما كان حراماً أصبح حلالا.. وما كان حلالاً أضحى حراما.. إنها السياسة التى تلعب بالعقول من أجل كراسى السلطة، إنها جريمة القوى السياسية المختلفة التى تتصارع أو تستخدم العنف.. إنها أزمة معظم أنظمة العالم الثالث التى تجعل هذا الجندى يصد عنها نوبات الغضب من تردى الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. دون أن تحل مشكلاتها بعيداً عنه.. إنها تجعله دوماً الذى يحمى تقصيرها أو فشلها السياسى أو الإدارى أو الاقتصادى. هذا الجندى البسيط لا يدرى لماذا يشتمه ويضربه ويؤذيه ويلقى عليه الحجارة والمولوتوف بعض المتظاهرين.. ويذهبون إليه رغم أنه اليوم لا يذهب إليهم ولا يريد الاحتكاك بهم.. أما يكفيه أنه حشر مع المئات من قريته فى الريف أوالصعيد فى قطارات بائسة حتى يساق إلى معسكره تاركا أسرته فى وضع اقتصادى مأساوى ويأخذ 150 جنيهاً فى الشهر لا تسمن ولا تغنى من جوع، إنه ممزق ما بين بره بأمه فى القرية وما بين قسوته على من يقع تحت يديه وما بين وداعته مع أصدقائه وضربه أو قتله للمعتقلين فى السجن وما بين طيبة قلبه مع أقربائه وأحبابه وشراسته فى ضرب المتظاهرين، فهل يستمر هذا التناقض فى حياته؟، إنه لا يدرى بأى الشخصيتين يعيش.. وكيف يجمع بينهما.. وكيف يخدم الوطن ويحمى الشرعية والمنشآت العامة دون أن يظلم أو يظلم أو يعتدى على أحد أو يعتدى عليه.. إنه إنسان طيب مثلنا وضعناه جميعاً فى أسوأ ظرف يمكن أن يوضع فيه إنسان.. ثم طلبنا منه الحكمة والرشد والعقل والعفو والتسامح وقبول الدنية.. فأنى له ذلك.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة