منذ أكثر من نصف قرن وعلاقة أجهزة الأمن بالمجتمع سيئة، وتدنت سمعتها للحضيض فى عهد مبارك، والأسباب معروفة أهمها تغليب الأمن السياسى على حساب الأمن الجنائى، فقد سخرت وزارة الداخلية طاقاتها كافة لتأمين المسؤولين، وملاحقة المعارضين وزرع عملاء فى أحزاب المعارضة والحركات التى مهدت الطريق أمام اندلاع ثورة 25 يناير، التى شكلت زلزالا هز جهاز الأمن وأصاب رجاله بصدمة تتجاوز ما حدث لجهاز المخابرات فى عهد صلاح نصر. سافرت كثيرا من دول العالم ولم أشاهد ما يسمى «خدمة التشريفة» التى يمارسها الأمن المصرى برص حشود من القوات النظامية والسرية على امتداد خط سير المسؤول، وهذه واحدة من الممارسات العقيمة التى تستنزف قدرات رجال الأمن فى مهام لا معنى لها، وأذكر أننى حين كنت ضابطا بالشرطة قبل استقالتى 1997 كنت أقف مع مئات الضباط والأفراد لتأمين موكب مبارك فى كل تحركاته. ووصل الأمر باستمرار وقوفنا حتى يسافر للخارج ليجرى محادثات، ويعود ونحن واقفون كأعمدة الإنارة فى صقيع الشتاء وصهد الصيف، وكانت الوزارة تستدعينا من أقسام الشرطة وإدارات الأمن، وبعدها تكون قد استنزفت قوانا فنعود لعملنا الأساسى منهكين عصبيين غير قادرين على ملاحقة جرائم القتل والسرقة وغيرها، مما يهم أمن الناس الذى لم يكن يعنى قيادات الداخلية، بقدر ما كان يعنيهم رضا القيادة السياسية فقط.
من هنا حدث قصور شديد لأجهزة الأمن فيما يتعلق بالأمن الجنائى، وكانت النتيجة تعاظم حالة الانفلات الأمنى الذى يعانيه المجتمع منذ عهد مبارك وبلغ ذروته بعد الثورة، فهذه فواتير قديمة تراكمت يسددها الوطن الآن. أمر آخر يعرفه العاملون بوزارة الداخلية وهو عدم العدالة بين الضباط، فهناك ضابط يتقاضى عشرات الآلاف، بينما زميله فى ذات الرتبة لا يتقاضى سوى ألفين أو ثلاثة آلاف، ذلك لأن الأول يعمل فى جهات تحصل على أموال من وزارات أخرى كمباحث الأموال العامة والتهرب الضريبى مثلا، بينما ضابط الأمن العام فى أقسام ومراكز الشرطة يتقاضى الفتات، مع أنه يعمل 24 ساعة وينام فى مكتبه، وهذا الوضع قد يغرى الضابط على الفساد، لهذا تفشت الرشوة والمحسوبية، ومن ينكر هذا الأمر كمن يدفن رأسه فى الرمال. تبدل أكثر من وزير للداخلية منذ قيام الثورة حتى الآن، والحال يمضى من سيئ لأسوأ، سواء داخل الجهاز أو فى المجتمع، فالأمن ليس مجرد وزير، بل منظومة كاملة تعانى حزمة من الأمراض، علينا الاعتراف بها وعدم إنكارها إذا كنا حقا نسعى لإعادة هيكلة جهاز الأمن وإصلاحه وليس كافيا أن يقول مسؤول أمنى إن العقيدة الأمنية تغيرت، بينما نرى احتقانات داخل الجهاز كما حدث مثلا لرجال الشرطة بمركز «صدفا» بأسيوط، وقبلها إهانة وزير الداخلية من قبل رجاله، فى واقعة لم تحدث منذ إنشاء نظارة الداخلية. هناك أيضا ظاهرة بالغة الخطورة وهى ظهور كيانات مثل «حركة ضباط الشرطة الأحرار»، التى تضم ضباطا من الرتب الصغيرة والوسطى، وتصدر بيانات عبر الإنترنت، أحدثها ذلك الذى اتهمت فيه وزير الداخلية بالاتفاق مع الرئاسة، على أن تتولى ميليشيات تتبع جماعة الإخوان المسلمين إطلاق النار على المتظاهرين. وبعيدا عن مدى صحة هذه المزاعم، فإن مجرد ظهورها مؤشر خطير لانقسام فى مؤسسة سيادية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هؤلاء الضباط يعملون ميدانيا ولديهم معلومات حقيقية عما يحدث، وقد أنشأوا مواقع بشبكات التواصل الاجتماعى بالإنترنت وأصدروا حتى الآن خمسة بيانات تتضمن معلومات خطيرة، ولا أظن أن الأمن الوطنى وإدارة المعلومات بوزارة الداخلية غافلة عن هذه المواقع وتلك الحركات. وفضلا عن كل هذا فالعلاقة بين الشرطة والشعب مازالت سلبية فى أذهان غالبية المصريين وأكثر مما كانت عليه فى عهد مبارك، والحل لن يكون بإصدار بيانات لا صلة لها بالواقع المأزوم، أكتب هذا كضابط سابق مهموم بجهاز أفنيت به زهرة شبابى ويعنينى صلاح أمره والله المستعان.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة