وسط ركام الكوابيس التى تحاصرنا فى كل مكان، تخرج المطابع يومياً أعمالا أدبية عظيمة لا يلتفت لها الإعلام، هذه الأعمال تعبر عن مصر المبدعة المحاصرة، ففى العامين الأخيرين صدرت روايات ودواوين عظيمة، ودخلت ساحة الإبداع وجوه جديدة، تؤكد أن قيمة مصر الحقيقية فى إنتاج مبدعيها الذين يعملون فى مناخ معاد للإبداع، وربما ظلمت الأحداث اليومية الكابوسية المتلاحقة معظم هذه الأعمال، لأنها حولتنا جميعا إلى معلقين على الأحداث، الصفحات الثقافية ـ إن وجدت ـ باتت تبحث عن النصوص والكتب التى تنسجم مع الخراب، وتحول نقاد الأدب إلى سياسيين، وتم ظلم أعمال مهمة كان ينبغى أن يعرف محبو الأدب بظهورها، قبل أسابيع قليلة نشرت هيئة قصور الثقافة ـمشكورةـ الأعمال الكاملة للشاعر الكبير محمد فريد أبوسعدة، والجلوس إلى الشعر فى اللحظات الغائمة يشعرك بأن الجمال سينتصر لا محالة، وأن أجنحة الخيال قادرة على حملك إلى أيام وسيعة على مرمى البصر، أبو سعدة صوت خاص صادق، أخلص لفن الشعر ولم يشغل نفسه بشىء غيره، لم يكن فى يوم من الأيام مشغولاً بالمجد ولم يقبض عليه منتمياً لتشكيل شعرى، جلس إلى مشروعه بعيداً عن الصخب والفلاشات، وعندما وصل سن التقاعد قبل سنوات عاد إلى بلده «المحلة الكبرى»، «المحلة هذه الفراشة تثقب الروح، ساحرة، ومفاجئة كانفلات الوتر، العجوز التى هدهدتنا على حجرها فى المساءات، تبهرنا بالحكايات حتى ننام»، لقد أسقط شعراء السبعينيات فريد ومحمد صالح من حساباتهم، رغم جهدهما العظيم فى تخليص القصيدة من زخارف وشحم السابقين، انتقلا فى وقت متقارب من التفعيلة إلى النثر، ليس حباً فى ركوب الموجة، ولكن من أجل تطعيمها ودعمها فى مواجهة الذين يقدسون الشكل، أعمال فريد التى صدرت فى ثلاثة مجلدات تعبر عن سيرته وسيرة الشعر العربى فى مصر فى أربعين عاماً، فى المجلد الأول (الذى يضم: السفر فى منابت الأنهار، وردة الطواسين، الغزالة تقفز من النار، وردة القيظ) استنفذ غنائية قصيدة الرواد التى كان أمل دنقل آخر فرسانها وكان مشغولا فيه بالمراثى والرثاء، «يتلكك» على ذكرى أو رحيل «ليعدد» ويسمع نفسه صوته ويدربه على الغناء، هو يعرف منذ البداية «أن أسفلت هذه البلاد طلاء: على قشرة القنبلة»، فى المجلد الثانى (ذاكرة الوعل، طائر الكحول، معلقة بشخص، جليس لمحتضر، سماء على طاولة) يجرب فريد الانتقال بصوته من مقام إلى مقام دون أن تتغير نبرته، خطفه عالم التصوف برجاله وقيمه ومفاجآته والشعر الغزير فى نثره، هو يعرف «أن الصحف تتساقط علينا نتفا، كأصابع مجزوم، ودم يبقع قمصاننا، ولا ندرى من أين، فى هذا المجلد «شاردا، كان يتفقد عمره من أعلى، مثل منطقة منكوبة»، منذ منتصف السبعينيات وفريد يجرب فى أكثر من منطقة، كتب للمسرح، عمل على أشكال سردية غريبة، انتقاله وقلقه وبحثه الدائم عن حلول جديدة فى الكتابة هو الذى أطال عمر قصيدته، وجعلها طازجة رغم مرور الزمن، لم يستند إلى الماضى، كما يستند السكران على الحائط، فى المجلد الثالث (مكاشفتى لشيخ الوقت، سيرة ذاتية لملاك، أنا صرت غيرى) تتجلى موهبة فريد الحقيقية، الريفى، العاشق المتصوف، المدينى، المسالم، القناص.. دخل قصيدة النثر دون أن يتخلى عن بعض حيل جيله فى القنص، ومع هذا تشعر أنه ينتمى للأجيال الأحدث، لأنه مشغول بالحياة ويريد أن يصنع علاقات شعرية لها لكى تصبح محتملة، يعتمد على مخزون البداهة الذى داست عليه أقدام البلاغة الثقيلة، يتأمل المشهد بدون مرارة، ويتجاوز الحفر التى تقابله وهو يضحك، صدور أعماله كلها فى عمل واحد يليق به.. مبروك للشعر العربى فى مصر.