لكل مجتمع أو مدينة عملاقة مثل القاهرة خطاب للموت يقابل ويكمل خطاب الحياة فى تلك المدينة. لذلك لا يكتمل فهم وتحليل خطاب القاهرة إلا بالتوقف المتأمل وطويلاً أمام خطاب الموت. ففى كل حياة، وفى جميع المجتمع يقبع خطاب الموت فى خلفية المشهد العام للحياة بكل ضجيجها وصراعها، يحرك خطاب الموت كثير من الناس ويحدد مواقفهم فى الحياة، لكنهم يحاولون دائماً تهميش هذا الخطاب، نفيه أو نسيانه من المشهد العام لحياتهم ولمدينتهم التى يعيشون فيها. لكن لخطاب الموت فى المحروسة شأن آخر، ووجود متميز يختلف فى طعمه ورائحته عن خطاب الموت فى أى بقعة أو مدينة فى العالم. هنا للموت حضور آخر، حضور ثقيل ومتداخل ومتعايش مع الحياة ومع خطاب الناس وأزيائهم ولغتهم بل فى حركة السيارات والمارة فى شوارع المحروسة. وأقصد بخطاب الموت فى المحروسة كل ممارسات الحزن والدفن والعزاء ونعى المتوفى وأسرته فى صفحات الوفيات، ومعمار المدافن، والحياة فى المقابر وزيارة الموتى لتلاوة القرآن وتوزيع الصدقات طلباً للرحمة، فضلاً عن جميع التفاعلات المعلنة وغير المعلنة مع الموتى والتى يمارسها القاهريون المسلمون والأقباط مثل تذكر الموتى وطلب شفاعتهم لقضاء احتياجات أو آمال الأحياء.
والمدخل الصحيح لتحليل خطاب الموت ومكوناته هو الأقرار بأن الموت ثقافة، كما أن الموت أيضاً خطاب يعكس ويجسد ثقافة الموت وحقيقته الغامضة المخيفة، المتجاوزة لكل الطبقات والصراعات والتناقضات التى تشغل البشر فى حياتهم. وخطاب الموت مكون رئيسى من مكونات الثقافة المصرية عبر العصور، ورغم كل ما طرأ على ثقافتنا من تغيرات، فإن خطاب الموت حافظ على كثير من قيمه ورموزه وطقوسه المصرية الخالصة. وبهذا المعنى نحن إزاء خطاب متجاوز للزمن والدين ولكثير من مكونات الثقافة، حتى يمكن القول إن ثقافة وخطاب الموتى هى من أكثر عناصر الثقافة المصرية والشخصية المصرية استمراراً وديمومة، فرغم كل ما طرأ على طقوس وعادات الحزن على الموتى، ورموز هذا الحزن، ومعمار المدافن، علاوة على التحول فى أيديولوجية الموت ذاته وقيمه وعلاقته بالإيمان ويوم الحساب فى الأديان المصرية القديمة ثم فى المسيحية والإسلام، رغم كل ذلك يظل معنى الموت وطقوسه بل علاقته بالإيمان ويوم الحساب أمور شبه ثابتة مع وجود تحويرات وتبدلات يمكن فهمها وردها لأصلها الأول الفرعونى. بقاء واستمرار المكونات الأساسية لخطاب الموت عبر التاريخ والثقافة المصرية، وفى القاهرة تحديداً، يعبر صراحة عن عمق وسمو فلسفة المصرى وقدرته على التفكير المجرد العابر لوجوده المادى الزائل، وقدرته على بلورة معنى للموت، ورمز للضمير وللحياة بل للافتقار للمعنى المتضمن أحيانا فى فكرة الموت. وأعتقد أن الفلسلفة المصرية القديمة نجحت وبامتياز فى صياغة حدود واضحة لمعنى الموت، وفى صياغة تفسير مقنع وقوى لمعنى أن تكون إنسانا صالحاً.
الموت حاضر بثقل فى أحزان المصريين وفى أفراحهم ولهوهم، حتى عندما يضحكون فى لهو برىء يتدارك الشخص نفسه ويتوقف عن الضحك ويقول: اللهم اجعله خير. أكثر من ذلك فالموت حاضر فى أزياء المصريين، فى انتشار الحجاب والنقاب وفى الشعارات التى تدعو الفتيات للتحجب، فعذاب القبر ونار جهنم تنتظر المتبرجات، من ناحية أخرى فإن ارتداء المرأة للملابس السوداء هى رمزية واضحة ومتفق عليها فى ثقافة المصريين على الحداد لموت شخص عزيز. والموت حاضر أيضاً وبصياغات غير مباشرة فى العبارات التقليدية التى تكتب على السيارات وفى إعلانات الطريق التى تحذر من السرعة فى مدينة تسير فيها السيارات ببطء الحمير.