الثوار النبلاء الحالمون تخيلوا بحسن نيّة أن عهد قصف الأقلام وتكميم الأفواه قد ولى بغير رجعة بعد الثورة، لكن ما حدث سواء إبان حكم المجلس العسكرى، أو الإخوان لا يبشر بخير فى مضمار حرية التعبير، بل على العكس، فما كان يجرى خلف الكواليس من هيمنة على وسائل الإعلام فى عهد مبارك، سيقنن ليصبح سيفًا مسلطًا على رقاب الصحفيين والمبدعين.. أبشركم بعهد أسود من ملاحقة كل رأى مخالف، «وكله بالقانون»، وستهاجر أقلام للخارج لتنشر بصحف أجنبية ستمنعها حكومات الإخوان، وسيمتد التضييق للإنترنت، لنعود لعصر المنشورات السرية، ولا مانع من تلفيق التهم لهذا المعارض أو ذاك الكاتب بحيازة أو توزيع منشورات بمزاعم كالمساس بالأمن القومى، أو بالإسلام ورموزه، وهى بالطبع تهم مطاطة تنطبق على كل كلمة معارضة، هلّت بشائر هذه النبوءة مبكرًا فتوالت الأحداث من غلق فضائيات ومصادرة صحف، واغتيال صحفيين، ووضع كوادر الإخوان على رأس الصحف الحكومية، وملاحقة مقدمى البرامج الحوارية قضائيًا من الرئيس شخصيًا، ووصم الإعلاميين بأنهم «سحرة فرعون» كما زعم كبيرهم الذى علمهم السحر.
كل هذا فى كفة، وما أقره وزراء الداخلية العرب فى اجتماعهم الأخير فيما أسموه «مشروع استراتيجية عربية للأمن الفكرى» فى كفة أخرى، اندلعت شرارات الثورات العربية ضد الدول البوليسية وممارساتها الفاشية ولم تكن «ثورات جياع» بل حريات، ليجد من أدركتهم لعنة الكتابة أنفسهم أمام منظومة قيود حديدية، اتفق عليها وزراء الداخلية العرب، الذين نحّوا كل خلافاتهم ليتفرغوا لتأمين الفكر، الذى لا أفهم له معنى سوى «فرض الوصاية» على الإعلام فى زمن لا يحتمل هذا الهراء، فكيف سيمنعون الفضائيات والإنترنت والهواتف الذكية عابرة الحدود؟
كانت غاية ما تفتق عنه فكر نظام مبارك البوليسى هو إنشاء «مركز للإعلام الأمنى»، لإبراز جهود الشرطة، أو تبرير القمع، بينما كانت هناك «مساحة عرفية» لحرية التعبير.. القادم أسوأ، فحتى هذه المساحة المتواضعة سيأتى يوم قريب نتحسر عليها، لأن الصحفى والكاتب سيتعرض أولا للتهميش، ثم الملاحقات القضائية، ولا أستبعد التصفيات المعنوية بالدعاية السوداء، حتى الجسدية، ثم يصور الأمر باعتباره جريمة ضد مجهول، كما حدث لزميلنا أبو ضيف.
فى الجانب الآخر من المشهد يتنطع «مشايخ التوك شو» بعبارات بذيئة وتوزيع التهم المغلظة على خلق الله، دون رقيب ولا حسيب، ومن أمن العقاب أساء الأدب، قوانين الفيزياء تؤكد أن لكل فعل رد فعل، فلا تتوقعوا أن يستسلم الصحفيون ببساطة مهما وضعتم من قيود، فلا بأس بالسجون والمنافى، لكن لن نسمح بالوصاية على ضمائرنا، فإذا لم يكن من الموت بدٌّ، فمن العار أن نعيش جبناء.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة