يأخذ الموت صالحنا ويتركنا فى عراك مع هؤلاء الذين يحترفون خلط الحق بالباطل.. هكذا علمتنا الأيام الأخيرة.
يأخذ الموت أصحاب الأرواح البيضاء ويتركنا فى جدال مع أولئك الذين ضاقت مساحات السماحة داخل صدورهم.. ذهب الشيخ عماد عفت، ومن بعده محمد يسرى سلامة وبقى لنا أبوإسلام وخالد عبدالله وصفوت حجازى وباقى القائمة التى لا تجد غضاضة فى أن تصفك بالكفر وتتمنى لو أن الله خسف بك الأرض لمجرد أنك تحمل لهم فى قلبك نقدا أو لسلوكهم وأفكارهم رفضاً..
اللهم لا اعتراض على حكمتك، ولا قدرك، أنت عالم الغيب وربما أردت بخيارنا هؤلاء الرحمة فقررت إنقاذهم من دوامة العبث التى نعيشها، وربما أردت أن تعاقبنا بمن أبقيتهم يكفروننا ويصيبوننا فى ديننا لتطهير عوالق ما بنفوسنا قبل أن نلقاك.. الحمد لله على كل شىء.
يموت الأحبة ونحزن ثم نتذكر فجأة أنهم رحلوا دون أن نخبرهم بأن فى قلوبنا لهم حباً واحتراماً، أقول ذلك لأن الكل الآن يهرول متحدثا ومنقبا عن محاسن الدكتور محمد يسرى سلامة باكياً على رحيله وفراقه..
مصر كلها بأهل تيارها السلفى والإخوان والليبرالى واليسارى وحتى هؤلاء «اللى ملهمش فيها» يعزفون سيمفونية واحدة فى حب محمد يسرى سلامة ومغازلة وسطيته وسماحته ورحابة صدره وطريقة تفكيره التى كانت جسراً بين النقل والعقل، ولو أن كل من يذوب عشقاً فى محمد يسرى سلامة الآن أخبره من قبل بكل ما فى قلبه من حب واحترام لشخصه لربما استطاع أن يصمد فى وجه المرض أو يؤانس روحه خلال محنة الأسابيع الأخيرة..
لا أنت ولا أنا فى حاجة للحديث عن محمد يسرى سلامة وأدبه وعلمه وقابليته لتغيير الأفكار والتعامل مع الآخر باحترام، محمد يسرى الذى كتب فىآأخر أيامه يقول: (ابتعدوا بالدعوة عن السياسة، لا تحرقوا الدعوة بنار السياسة، ولا تجعلوا من الخلاف السياسى خلافاً دينياً، لم يستمع أحد، وها هى النتيجة: فقدان الثقة فى الدعوة، هو الجسر الذى عبر من فوقه البعض ليتأكد بأن الآخر ليس إرهابياً أو شيطاناً، هو الجسر الذى رأى من خلاله بعض أبناء التيار السلفى أن الليبرالييين ليسوا كفاراً ولا أهل فسوق كما يقول المتطرفون من أمثال شومان وخالد عبدالله وأبوإسلام وعبدالله بدر..
إن أردت أن تعرف جيداً ما الذى خسرته مصر وما الذى خسرته أنت برحيل محمد يسرى سلامة اقرأ السطور التالية التى كتبها عن الثورة وركز جيداً مع وجعه وآماله التى يبدو أنها لم تتناقص أبداً.
.
«يوم الثلاثاء السابق لموقعة الجمل كنت متعباً جداً، أعانى من كدمات وإصابات غير ملحوظة، بالإضافة إلى مشاركتى فى اللجان الشعبية ليلاً.
هاتفنى صديق آخر كما هى عادتنا كل يوم:
لننزل؟ قلت: أنا متعب، اعذرنى اليوم، قال لى: كيف تقول هذا، تلك أخطر أيام الثورة، وإذا لم نتحمل سيتم إلصاق الأمر كله بالإخوان وذبحهم ذبحاً، وسينتهى كل شىء. ما كاد يتم كلماته حتى أجبته: أراك خلال نصف ساعة.
بالمناسبة، صديقى هذا يسارى لا علاقة له بالإخوان ولا بالتيار الإسلامى أصلاً، وكلما تذكرت كلماته حزنت، حزنت من الإخوان وكيف تباعدوا عنا بعد ذلك، وقد كنا أحرص الناس عليهم وعلى سلامتهم.
اختلط الحابل بالنابل والصديق بالعدو، تشوشت الأفكار وكثر الضجيج، لكنى على يقين -أو ربما على أمل- من أننا سنعود يوماً ما، وسنخطو مرة ثانية تلك الخطوة الواثقة.