عدت من اسطنبول إلى القاهرة بعد عدة أشهر قضيتها فى تركيا أستاذا بمعهد الشرق الأوسط بجامعة سقاريا، ولم أكد أضع رحالى فى مدينة القاهرة حيث أقيم، إلا ووجدت النظام القديم لا يزال يطل بوجهه بعد أول خطوة خطوتها خارج مطار القاهرة، سائقو التاكسى أشبه ما يكونون بشبكة تحيط بالمسافر القادم لمصر وهو ما يعطى دلالة سلبية على طبيعة القواعد المحددة للعلاقات فى مصر.
فى تركيا كل شىء واضح ومحدد ومفهوم ومعلن. أذكر أن صديقى أستاذ الفلسفة وعلم الاجتماع الدينى فى جامعة سقاريا معمر «اسكندر أوغلو» قال لى: إن حكومتنا تعرف عنا أكثر مما يجب، بمعنى أن كل شىء واضح لا خفاء فيه، فرئيس الجمهورية معروف راتبه، ونفقات كل إدارة معروفة، ونظام الضرائب واضح وملزم للجميع، وتعد تركيا من أكثر دول العالم حصولا على الضرائب من مواطنيها خاصة الأغنياء، ولا أعرف لماذا لا تستفيد القاهرة من اسطنبول فى وضع قواعد واضحة لنظام الضرائب فى مصر، ووضع قواعد واضحة لنظام التأمين الصحى مثلا.
فى اسطنبول وكل المدن التركية توجد البلديات التى تعمل كحكومة مصغرة فى مناطقها تقوم بكل أعمال التحضر والعمران الذى جعل مدينة كسقاريا التى أعيش فيها أشبه بتجمع راق كبير لكل سكانه، العمران فى اسطنبول وسقاريا وكل المدن التركية أساسه البلديات أو المحليات كما نعبر عنه فى مصر.
لا يوجد تربص على الإطلاق بين الموظف الخادم العام للشعب وبين الجمهور، لأنه توجد قواعد واضحة منظمة للعلاقة بينهما، ولا تعرف تركيا نظام الواسطة أو المحسوبية، كما أن الفساد فيها تمت محاصرته بشكل تام، فلا تعرف تركيا أصلا تقاليد التزوير والغش فى استخراج أوراق مفبركة كما هو الحال فى قضية فساد مبارك وأولاده لتجديد قصور الرئاسة. فى تركيا توجد دولة ويوجد قانون يحترمه الجميع، ويوجد نظام يخضع له كل من يقيم على الأراضى التركية وفق قواعد قانونية واضحة، الدولة حاضرة فى كل مكان، ولكنها قبل ذلك حاضرة فى وجدان المواطن التركى الذى يوقن بأنه لا بد من احترام القوانين.
فى القاهرة ما زلنا نعيش مرحلة الثورة، وفى الثورة انهارت قواعد الضبط الاجتماعى القديمة ولم نؤسس بعد لقواعد جديدة تفرض احترامها على المواطن، وهناك عنف أسبوعى نشاهده فى البلاد، آخره كان ذلك الذى حدث أمام مكتب الإرشاد، تناضل القاهرة من أجل نظام سياسى أكثر حرية وإنسانية ومن أجل التأسيس لدولة قوية ونظام سياسى يحترم القانون.
تتجه اسطنبول إلى نظام سياسى استطاع أن يؤسس لما يمكن أن نطلق عليه تيار رئيسى داخل المجتمع التركى يضم شرائح متنوعة بعضها ينتمى لليسار وبعضها ينتمى لليمين وبعضها قومى وبعضها ليبرالى وبعضها محافظ وبعضها علمانى، وهناك دستور جديد يحاول أن يعبر عن هذه التوليفة المركبة والمعقدة فى المجتمع التركى، وهنا تكمن أهمية اسطنبول للقاهرة، حيث لا تزال القاهرة تبحث عن نقطة مركزية تجذب إليها قوى المجتمع المصرى الواسعة للتأسيس لمشروع سياسى وإنسانى واجتماعى جديد يعبر عن قيم الثورة المصرية، وهنا فإن قدرة القاهرة على بناء تيار رئيسى كما فى تركيا يعبر عن تطلعات الأجيال الجديدة التى صنعت ثورة يناير يعنى أننا بإزاء عصر جديد تدخل فيه القاهرة واسطنبول معا على قدم المساواة تشكيل الواقع الإقليمى المضطرب الذى تعيشه منطقة الشرق الأوسط.