إن المتتبع للتطورات السياسية والحزبية فى مصر يلحظ أن المعارضة المصرية فى هذه المرحلة، باتت منقسمة بين تيار يمثله عدد من الأحزاب الوسطية، وتيار تمثله جبهة الإنقاذ، فضلاً عن تيار ثالث، يضم الأحزاب السلفية، مثل النور والراية وغيرها، وهذا التيار يحتاج لحديث منفصل، للعديد من الأسباب، أما محور حديثنا هنا فيتركز على الأحزاب الوسطية وجبهة الإنقاذ، الذيّن يمكن رصد العديد من الملاحظات بشأنهما، وهى الملاحظات التى توضح أيضًا، العديد من ملامح المشهد السياسى والتوازنات على الساحة ومضمون ومستقبل الصراع الدائر الآن.
الملاحظة الأولى، تتعلق بتكوين كل تيار وتوجهاته، فالتيار الذى تمثله جبهة الإنقاذ، يضم أصحاب خلفيات وانتماءات وتوجهات مختلفة، ما بين الليبرالى والاشتراكى والناصرى، وما بين مناضلين ورموز ساهموا فى ثورة 25 يناير، وكانوا سببًا فى تحريك المياه الراكدة قبل الثورة، أبرزهم الدكتور محمد البرادعى، وشخصيات من أركان النظام القديم وآخرين بين هذا وذاك، وغنى عن القول أن معظم الأحزاب المنضوية ضمن هذا التيار تتبنى توجهات مفادها "فصل الدين عن الدولة".
أما التيار الآخر، فتنضوى فى إطاره عدد من الأحزاب الوسطية، مثل مصر القوية والوسط وغد الثورة والحضارة وحزب مصر الذى أسسه عمرو خالد مؤخرًا، ويضم هذا التيار عددًا من الرموز الوطنية الكبيرة أمثال عبد المنعم أبو الفتوح وسليم العوا وأيمن نور وأبو العلا ماضى وغيرهم من الشخصيات البارزة التى طالما ناضلت خلال سنوات القمع ودفعت الثمن غاليًا، ومعظم الأحزاب التى تدخل فى إطار هذا التيار تؤمن بالدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، ولا تؤيد القطيعة التامة بين الدين والدولة.
الملاحظة الثانية، وهى المتعلقة بهدف كل من التيارين من وراء اتخاذ موقف معارض للنظام، إذ يحلو للبعض القول بأن الهدف واحد، والاختلاف فقط فى الوسائل، وهذا غير صحيح، على الأقل حتى الآن، فإذا كانت هناك شخصيات داخل جبهة الإنقاذ تعارض الرئيس بسبب الأداء السياسى، إلا أن أغلبية المنضمين لتلك الجبهة، يرفضون النظام تمامًا، ليس بسبب أخطائه السياسية كما هو معلن، ولكن بسبب رفضهم لرئيس من التيار الإسلامى أو بسبب احتقانهم من جماعة الإخوان المسلمين أو بسبب سعى بعضهم لكرسى الحكم.
وما يؤكد ذلك، أن معظم المنتمين لهذه الجبهة وأنصارهم حين خُيروا بين الرئيس مرسى والفريق شفيق فى جولة الإعادة بانتخابات الرئاسة، إما دعموا الأخير أو قاطعوا الانتخابات رفضًا للاثنين، بل أن بعضهم طلب وقتها من محمد مرسى الانسحاب من جولة الإعادة حتى يخوضها صاحب المركز الثالث حمدين صباحى، فى مطلب غريب لا يمكن أن يتصوره عقل سوى!.
ومع ذلك، فإنه حتى داخل جبهة الإنقاذ هناك أصوات بدأت تدرك عواقب المطالبة بإسقاط النظام بالقوة وعدم احترام رأى الشعب وهدم الآليات الديمقراطية لتداول السلطة التى تم تدشينها بعد الثورة، وما قد يؤدى إليه ذلك من احتمالات حدوث صدامات دموية تحرق الأخضر واليابس، وما يؤشر لذلك التوجه تصريحات عمرو موسى، التى أعلن فيها أن موقفه هو والدكتور محمد البرادعى، ومجموعة من جبهة الإنقاذ، مع استمرار الرئيس محمد مرسى حتى انتهاء مدته، إلا أن حمدين صباحى يصّر على انتخابات رئاسية مبكرة، تحدث الآن!
وعلى الجانب الآخر، فإن معظم الأحزاب الوسطية المعارضة للنظام، ليس هدفها إسقاط الرئيس من خلال القوة، ولكنها تسعى للضغط بهدف تصحيح الطريق، من أجل تحقيق أهداف الثورة عبر دفع مؤسسة الرئاسة لتبنى سياسات أكثر وضوحًا وشفافية وعملية تجاه المشكلات الخلافية، مثل تعديلات الدستور والحكومة والنائب العام وضمانات الانتخابات وغيرها.
ومعظم المنتمين لهذا التيار، رغم تحفظات الكثيرين منهم على أداء الإخوان إلا أنهم دعموا الدكتور مرسى فى جولة الإعادة بالانتخابات الرئاسية، ورفضوا التخلى عن الثورة فى هذا الاختبار الفاصل لإيمانهم بأن الهدف الرئيسى للثورة كان مواجهة فساد وقمع النظام القديم وإسقاطه وليس إقصاء التيار الإسلامى أو فصل الدين عن الدولة.
الملاحظة الثالثة، تتعلق بوسائل كل من التيارين، فإذا كانت العديد من الأحزاب الوسطية قبلت الحوار مع الرئاسة، واستطاعت عن طريق الحوار تحقيق بعض النتائج الإيجابية، فإنها الآن تعانى من العديد من المعوقات التى تعرقل وصول الحوار إلى نتائج إيجابية، بسبب إصرار النظام على بنود بعينها يرفض التنازل بشأنها، ومع ذلك فإنها مصرة على الضغط السلمى، لأنها تدرك أن البديل هو دخول البلاد فى دوامة من العنف وحرب الميلشيات.
أما جبهة الإنقاذ فترفض ـ حتى الآن ـ الحوار بكل صوره وترى أنه مضيعة للوقت، لكنها لا تطرح بديلاً عن الحوار، وحين تحدث أعمال حرق وتدمير، فإنها، للأسف، تعطى غطاءً سياسيًا لهذه الأفعال، تارة عن طريق الصمت وتارة أخرى عن طريق التبرير للعنف بأنه رد فعل، مع أنه من المفترض أن ندين العنف من الجانبين ونلفظه.
وحتى الآن لم تحقق جبهة الإنقاذ أى نتيجة تذكر من هذا الأسلوب التحريضى، فلا العنف أدى إلى تأجيل الاستفتاء على الدستور، ولا أدى إلى عودة النائب العام السابق، بينما أدى الحوار إلى إلغاء الإعلان الدستورى، حتى وإن بقيت بعض آثاره، وتأجلت الانتخابات بحكم قضائى وليس بسبب الاضطرابات، وحتى لو أدى التحريض والعنف فى المستقبل إلى إسقاط النظام نفسه، فإن ذلك قد يدفع البلاد نحو موجات من العنف المضاد، وليس من المنطق هنا أن نقارن بين ما قاله مبارك "أنا أو الفوضى" وبين ما نحذر منه الآن، لعشرات الأسباب التى يدركها أى متابع موضوعى.
الملاحظة الرابعة، تتعلق بنهج كل تيار فى التعامل مع المختلفين معه، فعلى عكس الخطاب المعتدل للأحزاب الوسطية، نجد أن الكثير من مؤيدى جبهة الإنقاذ والمدافعين عنها يقعون الآن فى خطأ فادح، ففى محاولتهم للدفاع عن مواقف الجبهة، يمارسون إرهابًا فكريًا للمعارضة المعتدلة والأحزاب الوسطية والرموز الوطنية، التى تختلف توجهاتها عن توجهات جبهة الإنقاذ، فيسعون لتخوينها والتشكيك فى مواقفها.
فتارة يحاولون طمس التاريخ النضالى للرموز الوطنية المنتمية للأحزاب الوسطية، مع أن بعض هذه الشخصيات مثل أيمن نور وعبد المنعم أبو الفتوح دفعا ثمن معارضتهما لنظام مبارك أكثر من معظم قيادات جبهة الإنقاذ.
وتارة يتهمون الأحزاب الوسطية بأنها تدور فى فلك الإخوان، رغم أن بعض هذه الأحزاب وقفت موقفًا مضادًا للإخوان فى العديد من المحطات الفاصلة، ومن ذلك موقف "مصر القوية" فى رفض الدستور، وعلى النقيض من ذلك، نجد أن العديد من القيادات والأحزاب الموجودة الآن فى جبهة الإنقاذ كان من العسير أن تحصل على مقاعدها فى البرلمان السابق، إلا بعد أن تحالفت مع الإخوان فى الانتخابات البرلمانية ضمن ما كان يطلق عليه "التحالف الديمقراطى"!
إحقاقًا للحق، فإننى لكل ما ذكرته سابقًا ولغيره من الأسباب، لا أستطيع أن أخفى انحيازى لتيار الأحزاب الوسطية، ورفضى للكثير من ممارسات وانتهازية بعض قيادات جبهة الإنقاذ، وعتابى على الشخصيات المحترمة الأخرى داخل الجبهة التى رضيت أن تترك الدفة لشخصيات متطرفة تسعى لكرسى الحكم أو لتصفية الحسابات أو لإقصاء التيار الإسلامى، وأرى أنه لولا أخطاء مؤسسة الرئاسة وعدم مرونتها فى التعامل مع القضايا الخلافية، وعدم قدرتها على احتواء المخاوف والمطالب الجماهيرية ما كان لجبهة الإنقاذ أى أثر فى الشارع السياسى.
ولذلك، فإن العامل الفاصل فيما يحدث الآن، هو ما ستفعله مؤسسة الرئاسة، وما ستتخذه من قرارات خلال الفترة المقبلة، فإذا استمر النظام، فى إحراج الأحزاب الوسطية والرموز الوطنية المعتدلة، بعدم وصول الحوار إلى نتائج ملموسة، فمن المتوقع أن تتضاءل مصداقية الأحزاب الوسطية لدى الرأى العام، وستكسب جبهة الإنقاذ مؤيدين جدد، وربما ستنضم لها أو تتحالف معها بعض القيادات والأحزاب الوسطية التى تتحاور الآن مع الرئاسة، وستزداد حينئذٍ حدة معارضة النظام.
أما إذا أثمرت جلسات الحوار الوطنى عن نتائج إيجابية، خاصة فيما يتعلق بضمانات الانتخابات والوضعين الأمنى والاقتصادى والعدالة الاجتماعية، فإن موقف الأحزاب الوسطية سيكون أفضل وأقوى، وستلقى قبولاً لدى الشارع بحكم نجاحها فى توصيل مطالب الشعب، وسيسحب ذلك البساط من جبهة الإنقاذ إلى حد كبير.
وفى كل الأحوال، يجب أن نؤكد على أن وجود معارضة وطنية فى أى بلد هو أمر إيجابى، لأن ذلك، يضمن الرقابة الدائمة للنظام، ويمنع السلطة من التوجه نحو الاستبداد، وتتزايد أهمية ذلك بالنسبة لنا، بسبب المرحلة الدقيقة للتحول الديمقراطى التى نمر بها الآن، إلا أن أهمية هذه المعارضة ترتبط فى الوقت ذاته، بأهدافها ووسائلها، فإما أن تسهم بتغليبها للمصلحة العامة على الخاصة فى سير العملية السياسية نحو تحقيق أهداف الثورة، وإما أن تنحرف عن دورها الوطنى من أجل أهدافها ومصالحها الخاصة.