لخمس سنوات الآن أتابع هذا الكاتب والفنان شريف عبدالمجيد ولا تتركنى الدهشة. قرأت له أكثر من محموعة قصصية أذكر منها «خدمات ما بعد البيع، فرق توقيت، وجريمة كاملة». ألتقى به فأعبر عن تقديرى لما يكتب وعن فهمه المتقدم لفن القصة سواء طالت أم قصرت، وعن إيجازه فى الوصول إلى المعنى، أو بالضبط الإحساس، وكيف أنه يدرك جيدا كل ما مضى من تطور فى فن القصة، لكن ذلك لا يجعله يستغرق فى التجريب إلى درجة إغلاق النص على القارئ، هو يحكى لكن بلا مقدمات تقليدية ويأخذك لاهثا إلى النهاية، ودائما ما يتصادف وجود شخص عندى فى البيت يطلب منى شيئا يقرأه. وهو عادة شخص لا علاقة له بالحياة الثقافية، فأعطيه ما قرأته لشريف، فصارت أعماله متفرقة بين البلاد، وأكتشف أنه فاتنى أن أنوه عنه فى أحد المقالات باعتبار أن الكتابة الأدبية ليست من أعمالى الأساسية.
كثيرون من الكتاب الممتازين فى مصر الآن حقا لا يلحق النقد بهم، مؤكد لكثرتهم، لقد كنا فى السبعينيات وقبلها فى الستينيات آحادا من الكتاب، الآن عشرات فى كل مكان، ولا يكفى أن أذكر الكثيرين منهم فى مقال،
ولست بقادر على الكتابة عن الجميع، إذن لماذا أخص شريف اليوم بمقالى هذا، لأنى من زمن، ربما منذ أكثر من ثلاثين سنة قرأت كتابا أجنبيا كان عنوانه «اذدواجية الرؤية - العبقرية والتنقل بين الفنون» كان به فصول كثيرة جدا عن من مارسوا الفن فى أكثر من مجال إبداعى، فعلى سبيل المثال وفيما أذكر بعد كل هذا الوقت كان لفيكتور هوجو كاتب المسرح والشاعر والروائى الرومانتيكى الفرنسى الكبير لوحات فنية. كان يمارس أحيانا الفن التشكيلى، وكان لستريندبرج كاتب المسرح لوحات فنية تعبيرية كمسرحه وكان لفان جوخ مقالات نقدية فى الفن التشكيلى، وكان لايزادورا دانكان راقصة بريطانيا العظيمة أول القرن العشرين كتاب مذكرات عالى القيمة الأدبية ورفيعها، ولبيكاسو مسرحية، وهكذا وحتى الآن الفنان فى العالم يمارس ما يريد من إبداع وتتحقق موهبته فى كل مجال يحب ويجد الدراسات التى تدرس هذا كله مقارنا فى مصر أيضا تحقق هذا، لكن كانت القسمة بين الرواية والقصة والسيناريو هى الأكثر، فيوسف جوهر وأمين يوسف غراب ونجيب محفوظ ويوسف السباعى ومجيد طوبيا كانوا يجيدون السيناريو كما يجيدون القصة والرواية وطبعا أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد أخذه السيناريو أكثر. وللفنان التشكيلى الكبير عز الدين نجيب قصص جميلة وللرائع جورج البهجورى أكثر من رواية وهكذا، لكن ليس بكثافة الكاتب الأجنبى،
أقصد من ناحية العدد.. شريف عبدالمجيد كتب المسرحية ومارس ويمارس التصوير الفوتوغرافى بحرفية وإبداع عال، أقام أربعة معارض خاصة وشارك فى معارض جماعية وكتب السيناريو لعديد من الأفلام التسجيلية وحصل فى القصة القصيرة على المركز الأول فى جائزة ساويرس المحترمة للقصة القصيرة عام 2008، وأخيرا أتحفنا شريف بكتابين رائعين عن الجرافيتى على جدران مصر، الأول عنوانه «أرض أرض» وصدر العام الماضى عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. صور بكاميرته جدران مصر التى غطتها أحلام الثورة الضائعة والقادمة وشهداؤها الأبرار والمتربصون بها من الشياطين، كما رسمهم الشباب الثائر فى كل مكان والشعارات التى لن تغيب، وهكذا قرر أن يوثق للثورة من خلال إبداعات شبابها وفنانيها الثائرين الذين جعلوا فن الجرافيتى غذاء يوميا للبشر يعيدون لنا ما كان يبدعه آباؤنا الفراعنة على الجدران. الفارق الوحيد أن آباءنا كانوا يفعلون ذلك فى راحة، بينما شباب الثورة العظيم يفعل ذلك تحت ضغوط متنوعة ليس أقلها الوقت وكثرة الأحداث، وليس أقلها أيضا النظرة المتخلفة لأعداء الثورة الذين أطلقوا كثيرا العنان لغبائهم لمسح الجرافيتى بحجج تافهة مثل تشويه الجدران التى يشوهها وجودهم فى هذا الوطن الثائر.
فى هذا الجزء للفنان الجميل الذى عرفت كاميرته طريقها للانتقاء المعبر بعد الجزء الأول الذى حفل بجرافيتى القاهرة والإسكندرية تجد لوحات من السويس والمحلة وبورسعيد وطنطا والإسماعيلية والمنصورة والأقصر وأسوان فى النهاية. مصر كلها هنا وفى الجزء الأول تشاهد ما لم تره فى المحافظات البعيدة وتصل إلى شباب الوطن الذين جعلوا من جدرانه معابد للثورة والأمل، ولن أستطيع أن أقف عند كل جدارية، فالكتاب الذى عنوانه «مكملين» وهو عنوان عرفته كل الجدران، وهو الكلمة الموجزة عن إصرار هذا الجيل، الكتاب أمتع حديثا عن صبوات وجنون ورغبات وآمال هذه الثورة، وهذا الوطن الجديد الذى يبدعه شبابه رغم أنف الطغاة.. تتأمل الجداريات المصورة فتدرك أن هناك تفاوتا فى قدرة مبدعيها، لكن روح الثورة والصدق الذى جاوز السماء يطل منها جميعا سواء كان سهلا مثل الشجرة العتيقة الراسخة المورقة التى تزهر شعارات الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية وخلفها على بيت الشعر الشهير «إذا الشعب يوما أراد الحياة» الفنان الموهوب الذى أبدع هذه الجدارية لم يكمل بيت الشعر، فصارت اللوحة هى النصف الثانى من البيت الشعرى «فلابد أن يستجيب القدر» وتينع الشجرة العتيقة، وأنت كمشاهد ستستدعى فورا نصف بيت الشعر ويتمدد داخلك الإبمان بالنصر، فهل هناك أجمل من أن يستجيب القدر للشعب، وتجسّد لك الشجرة العتيقة التى أينعت فلم تعد عجوزا وصار عمرها القديم قوة تتمدد أغصانا وأفرعا، أو جدارية مثل هذه التى هى طريق طويل كأنه مجال للسباق، فالخطوط تمتد مع الأرض كأنها تقسيمات طريق للسباق، وفى القسم الأعلى 2011 وتحته 25 يناير وتحته 2011 من جديد كأن التاريخ يتكرر، وسيتكرر فى إصرار.
أو كأنه لا طريق غيره ومن أسفل الطريق تبزغ يد قوية تحمل شعلة السباق تدعونا جميعا لأن ندخله ولا نتوقف ونبدأ. أو اللوحات البسيطة التى يحتل فيها الكلام مساحة أكبر مثل محمد - عطا - أنس - سالى - شهاب - حسين.. إلخ. كلها باللون الأحمر لون الدم، الاستشهاد، والأسماء بالأسود - رحلوا - فالاستشهاد قادم ولن نتوقف عنه، هكذا يبدو لنا جمال وموهبة صاحب الجدارية وجمال من اختارها ليصورها، مكملين رحلة رائعة مع الثورة، ما مضى منها وما هو حاضر وما هو مستقبل عبر كل البلاد.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة