ماذا تقول فى القرآن؟
هو كلام الله غير مخلوق.
إذا فهو العذاب حتى تقول بقولنا أو تموت دونه.
كلمات تلخص أحداث فتنة عارمة مر بها المسلمون يوما حين وصل المأمون لسُدة الحكم، وقد اعتقد باعتقاد المعتزلة الذين رأوا أن القرآن مخلوق، وبغض النظر عن التفاصيل الكلامية والفلسفية لذلك الصراع، التى محلها كتب الاعتقاد لمن شاء أن يفهم أصولها، ويدرك قيمة إصرار أهل السنة وإمامهم أحمد بن حنبل على رفض مقولة المعتزلة والتأكيد على أن القرآن ليس مخلوقا، فإن من أهم الفوارق بين تلك المعركة وغيرها من المعارك الفلسفية والكلامية فى التاريخ الإنسانى عموما والإسلامى خصوصا أن أصحاب ذلك الرأى قرروا فرضه على الناس. بل امتحان الخلق عليه، وهذا هو ما نقل تلك المسألة من بطون الكتب وقاعات التناظر إلى خندق الفتن وأقبية السجون، وحوَّل أدوات الصراع فيها من لسان ومحبرة إلى سوط وسيف. ما حدث فى فتنة خلق القرآن هو تلاقح بين السلطة والفكرة، وسيطرة من كهنة الفكرة على صاحب السيف، ومن ثم كان الإجبار وحدث الإكراه بعد أن صارت للفكرة أنيابا تنهش مخالفيها. لقد ترخص كثير من الناس وقبلوا أن يبتلوا على عقيدتهم ويُختبر مذهبهم، ثم قبلوا بعد ذلك وتحت وطأة التهديد والتعذيب أن يرضخوا ويتقوا من الظالمين تقاة ويقولوا تعريضا ما يرضيهم، اللهم إلا بضعة نفر، ثبتوا وقتل أغلبهم كابن نصر ومحمد بن نوح وثبت الإمام أحمد بن حنبل رغم التعذيب الرهيب حتى كشف الله الغمة، وجاء عهد المتوكل وأوقف تلك المهزلة.
أحداث شبيهة وقعت فى المغرب أثناء حكم دولة المرابطين ومن بعدها دولة الموحدين، حيث فرض على الناس فى الدولة الأولى المذهب المالكى وتم تعزير من لم يلتزمه بل وصل الأمر إلى إحراق بعض الكتب المخالفة للمذهب، ثم جاء زمان محمد بن تومرت مدعى المهدية وقائد دولة الموحدين ورغم أنه ادعى أن تلك الأفعال من أسباب ثورته على دولة المرابطين فإنه فعل مثلها وزاد عليها ما هو أشد فنكَّل بمن تمسكوا بمذهبهم المالكى ورفضوا المذهب الظاهرى الذى اعتنقه وأتباعه وحرَّق كتبهم ومصنفاتهم وأكره دولته على مذهبه.. اليوم نلحظ واقعا شبيها يمتحن فيه الناس، لكن هذه المرة ليس على عقائد وأقوال دينية بل للأسف على رؤى وخيارات سياسية. ربما لا يملك الممتحنون الجدد سيوفا يضعونها على رقاب الناس ليقولوا بقولهم، لكنهم يملكون ألسنا وأقلاما أحدَّ من السيوف يمزقون بها سمعة من يخالف آراءهم واختياراتهم ومواقفهم.. وبدلا من أن تتناثر دماء المخالفين، فإن أعراضهم وكرامتهم هى التى تتناثر مختلطة برذاذ الاتهامات بالعمالة والخيانة، فيُقتلون معنويا إن لم يتم قتلهم واقعيا كما حدث أيام تلك الفتنة.
إن تحول الخلاف والنزاع إلى امتحان يخضع فيه الخلق إلى نموذج إجابة يحدده مخلوق مثلهم هو أمر فى غاية الخطورة فى ذاته وفكرة لا يعرفها الإسلام ولا يقرها، ولم نعرف فى صحيح ديننا الأمر بإقامة محاكم تفتيش للإمساك بالمخالفين والتنكيل بهم. لكن للأسف يبدو أن «معتزليا» خفيا يقبع فى أعماق كثير من الناس، وينتظر أول خلاف لرأيه ليتضخم ويتعاظم ثم يمتحن الناس على رأيه، ويقيّمهم على حسب رضوخهم لخياره. وما دام أمثال هؤلاء ينظرون دوما إلى اجتهادهم على أنه الحقيقة المطلقة، الذى ينبغى للجميع أن يهللوا لها ويرددوا صداها، فسيستحيل عليهم يوما أن يتقبلوا حقيقة أن مخالفهم ربما يكون شريفا مريدا للحق. وطالما لم نحدد خطوطا فاصلة بين الثوابت التى يوالَى ويعادى عليها، وبين المتغيرات السياسية الأكثر مرونة، فسيظل الحال على ما هو عليه. بل لربما يسوء ويصل فى مرحلة ما إلى واقع شبيه بفتنة خلق القرآن. لم يعد هناك مناص من حتمية ترسيم تلك الحدود الفاصلة بين الثابت المحكم والمتغير النسبى، وما يحاسب عليه المرء وما لا يحق لأحد سؤاله عنه وإلا صرنا إلى الأبد أسرى لثقافة الامتحان على الرأى، ولصار لدينا فى كل يوم فتنة خلق قرآن جديدة. لكن ينبغى على العقلاء قبل كل شىء أن يحطموا أسوار لجان امتحان الرأى المنصوبة لهم من المخلوقين ويعلنوا أن مبدأ الابتزاز والمساومة على المواقف مرفوض تماما، وأن الابتلاء والاختبار إنما يكون من الخالق وحده. وأنهم ليسوا بحاجة إلى درجات ممتحنيهم ولا أحكام مبتزيهم وليصدعوا بها فى وجوههم.. كفاكم امتحانا للناس.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مصري
ماهو الغرض من المقال