مفاجآت صلاح جاهين لا تنتهى، حتى وأنت تعيد قراءة شعره، كان يعرف أقصر الطرق التى تأتى بالشعر، وكان يقطف قصائده وصوره وخيالاته بخفة مربكة، تأخذك قصائده إلى شىء خاص بداخلك، تشير إلى المشاعر البكر التى امتهنتها الحضارة الحديثة، هو صديق الطفولة الذى منحه الله موهبة اختزال ما يعجز الأقران عن قطفه، بسيط وشجى ولماح، غير معنى بالزخارف، غير معنى بصورة المثقف أمام نفسه فى المرآة، هو مشغول بالإنسان المعذب الذى يبحث عن البهجة والعدل، مشغول بالأسئلة البديهية التى أسست لها الطفولة الإنسانية، وتدور حولها الفنون عامة. صلاح جاهين هو عنوان الموهبة العذبة التى تشير إلى أجمل ما فينا، وحمل مع رموز جيله من الموهوبين أشواق المصريين نحو التحرر الوطنى والعدالة والعدالة الاجتماعية والحرية، أرخ للأحلام «والإخفاقات» الكبرى والصغرى بالكفاءة نفسها، وأسس لذائقة طازجة أخرى فى الشعر، تعتمد على مخزون البداهة الذى لا ينضب.
قبل أيام صدر عن الهيئة العامة للكتاب إنجازه الفريد فى فن الكاريكاتير، فى مجلدين أنيقين أخرجهما أحمد اللباد برقة تليق بصلاح جاهين، المجلدان يضمان أعماله بين عامى 56 - 1962، وأنت تتجول بين الرسوم تشعر أنك خفيف وأصغر سنا، لأنه يأخذك ببساطة إلى عوالم طازجة غير مستعارة، هو لا يبحث عن المفارقة التى تعجب السياسيين وغير الفنانين بشكل عام، ولا يعتمد على قوانين مدرسة ساعة لقلبك التى انتهت مع هزيمة 67، أنت أمام فيلسوف يبحث عن إجابات مستحيلة، مفرداته طفولية: طيور أسماك حيوانات أشجار، إلى جانب البيروقراطية والطب النفسى وأبناء المهن والمقاهى والأحداث السياسية، ستجده يأتى بـ«آخر الكسل» فى قهوة النشاط، يفرد مساحات للحرية لا يقدر عليها أحد الآن، ستجده مشغولا بالصيف والشتاء والربيع «فصل الورد والنحل والحلاوة والنار».
فؤاد حداد قال عنه «ولا كل مين.. له كلمة صابحة.. فى ربع صفحة.. وآراؤه صالحة»، ستجده يداعب رموز زمنه بشياكة مثل توفيق الحكيم الذى يقول لعامل المصعد: «البرج العاجى من فضلك» والقصبجى وعبدالوهاب وفايزة ونجاة «الطويلة وكمال الصغير»، هو لا يسخر ولا يجرح، عفيف اللسان والريشة والروح، اللباد الكبير «محيى الدين» اعتبره الشخص الذى هدم الحائط السميك الذى يفصل بين الكاريكاتير السياسى والفكاهة غير السياسية، وهو الذى استطاع أن يجد فى كل ما هو جاد «حتى وإن كان السياسة المتجهمة» الهزل والعبث، واعتبره أيضا الأب الشرعى للكاريكاتير العربى.
صلاح جاهين الذى مرت ذكرى رحيله أمس الأول، قادر على رسم الابتسامة من جديد، وقادر على المباغتة، قال عنه محمود درويش «إنه من معالم مصر، يدل عليها وتدل عليه، نايات البعيد وشقاء الأزقة ودفوف الأعياد، سخرية لا تجرح وقلب يسير على قدمين، جاهين يجلس على ضفة النيل: تمثالا من ضوء، يعجن أسطورته من اليومى، ولا يتوقف عن الضحك إلا لينكسر، يوزع نفسه فى نفوس كثيرة، وينتشر فى كل فن.. ليعثر على الشعر فى اللاشعر، صلاح جاهين يأكل نفسه وينمو فى كل ظاهرة.. ينمو لينفجر»، المجلدان إنجاز تستحق هيئة الكتاب ومركز توثيق التراث الحضارى والطبيعى والجمعية المصرية للكاريكاتير.. التحية عليه.