يتصور النظام بمشتملاته، من رئاسة وحكومة وجماعة وحزب، أن كل ما يجرى على الساحة من خلافات سياسية واقتصادية واجتماعية هو مجرد سوء فهم واختلاف حول المسميات، وأن مجرد إزالة سوء الفهم من شأنه أن يعدل من إحساس المواطنين، وينقلهم من التشاؤم للتفاؤل، ومن الغضب للرضا، ومن الرفض للقبول.
ولا يرى النظام أنه مخطئ، أو أن عليه قراءة التاريخ والجغرافيا وعلوم السياسة ليدرك أنه يكرر ما كان يجرى فى نظام مبارك طوال سنوات، وأنه يتمسك بكل القواعد الفاسدة والظالمة التى تمنع تكافؤ الفرص، وتسمح بالمحسوبية، وتحرم أصحاب الحقوق من حقهم.
كانت حكومات مبارك ترد على ازدياد معدلات الفقر بين المواطنين بأرقام تؤكد فيها أن هناك ارتفاعا فى نسبة حيازة الثلاجات والموبايلات، من دون أن تعترف بوجود اختلال فى ميزان العدل، وتوزيع الدخل، وارتفاع نسبة الفقر، مقابل تركز الثروة والسلطة فى أيدى عشرات، وكانت الحكومة تتحدث وتتباهى بارتفاع نسبة النمو، بينما تتجاهل سوء توزيع هذه النسبة.
وكأننا نكرر ما كان.. فهناك مشكلات اقتصادية واجتماعية، وما تزال نسبة الفقر وغياب عدالة التوزيع قائمة، وتنشغل الجماعة بالترتيب للانتخابات والمناصب، وتسارع بطبخ قوانين الانتخابات، بينما تتجاهل قوانين الحد الأدنى والأقصى للأجور. وفى الوقت الذى تزعم فيه الجماعة الرغبة فى محاسبة رموز النظام السابق المتهمين بالفساد، فإن مجلس الشورى لم ينشغل طوال أشهر بمناقشة تشريعات حقيقية للعدالة الانتقالية، يمكن من خلالها محاسبة من حصلوا على أراض أو ثروات بدون وجه حق. هم يكتفون بتحميل القضاء المسؤولية عن تبرئة المتهمين، وهم لم يوفروا من القوانين ما يمكن من خلالها محاسبتهم، واسترداد حقوق الدولة.
وبدلا من وضع قوانين يمكن من خلالها معالجة الخلل، يحاصرون القضاء، ويدعون للتطهير، وهم فى الواقع يهدفون إلى استبدال وجوه تابعة وموافقة بأخرى رافضة، مثلما كان يفعل نظام مبارك، عندما قرر مد سن القضاة لأغراض سياسية، بينما الجماعة تريد خفض السن لأهداف سياسية. والهدف هو فرض سيطرة جماعة الإخوان وفرض رجالها، مثلما كان الحزب الوطنى يفعل. هم لا يريدون تغيير قواعد اللعب الظالمة، ماداموا فى السلطة، ولهذا يؤيدون اليوم ما كانوا يرفضونه بالأمس، مادامت هذه القواعد تسمح لهم بالاستمرار، وهو أمر لا يدخل فى سياق سوء الفهم، بل سوء النية، ولا يتعلق بخلافات فى وجهات النظر، لكن فى سياق يساند الاستبداد ويعيد تصنيعه مع تغيير الوجوه.
وحتى فى قوانين الانتخابات، وممارسة الحقوق السياسية وتقسيم الدوائر، نكتشف أن الأغلبية تصر على إبقاء القواعد الظالمة نفسها، والتى تمنع تكافؤ الفرص بين المرشحين، وتغييب الضمانات، وتفصيل دوائر بالطريقة نفسها التى كان الحزب الوطنى يفعلها مع قياداته، ليضيف ويحذف حسب المصلحة. وإذا راجعنا ملاحظات المحكمة الدستورية، أو اعتراضات المعارضة على قوانين الانتخابات، سنجد أنها كانت اعتراضات الجماعة نفسها عندما كانت فى المعارضة، لكنهم الآن يدافعون عن المواد التى رفضوها وتظاهروا ضدها، لنكتشف كيف فعلت هرمونات السلطة، وكيف تغيرت الأهداف. والأمر هنا ليس خلافا شكليا أو فى المصطلحات، لكنه خلاف أساسى، نرى معه الأغلبية تدافع عما كانت تدينه من قبل.
وعليه، فإن الاختلاف والخلاف السياسى ليس مجرد خلاف فى وجهات النظر أو حول مسميات، لكنه حول استمرار قواعد ظالمة وخالية من العدالة، ورغبة هائلة فى الاستحواذ.
نحن نسمع الكثير من التصريحات على لسان قيادات الجماعة، تعلن وتقسم على رغبتها فى عدم إعادة النظام السابق، بينما سلوكهم وطريقتهم وقوانينهم، هى من تعيد النظام السابق بأسماء ووجوه جديدة.