قديمًا، قال المتنبى بعد زيارته إلى مصر أيام كافور الإخشيدى وهروبه منها بعد هجائه الفظيع لكافور نفسه الذى كان أفظعه «لا تشتر العبد إلا والعصا معه.. إن العبيد لأنجاس مناكيد» لا أوافق على هذه الأوصاف للعبيد الذين كانوا دائما ضحايا الأنظمة والأفكار المتوحشة للقادرين من الحكام وغيرهم.. وبتأمل الموقف والحالة تكتشف أنه لا يقصد بهذه الأوصاف العبيد إلا بسبب كافور الإخشيدى الذى كان عبدا وحكم مصر فصار ينتقم من خصومه أو من يراهم خصومه أشد انتقاما.. كذلك هجاه لأنه كان خصيا.. لكن هذا كله لا يتواتر على الذهن، فمن الصعب إن لم يكن من المستحيل أن تجد عبدا الآن فى الحياة العصرية، فما بالك فى الحكم.. كما هو مستحيل أن تجد خصيا وإن كان معروفا عن بورقيبة أنه كان بخصية واحدة.. حيت يقال إنه حين نصب له تمثال فى شارع بورقيبة الذى صار ميدانا للثورة بعد ذلك نظر إلى التمثال ودار حوله ضاحكا كأنه يبحث عن خصيته هل جسدها النحات واحدة أم اثنتين، بالمناسبة نقل بن على التمثال بعيدا جدا عن الشارع.. طبعا كانت هذه مزحة من بورقيبة إذا كانت حدثت أصلا فهو فى البداية والنهاية قاد ثورة التحرر على الاستعمار الفرنسى ووصل بتونس إلى الاستقلال.
ليس مما قاله المتنبى فى مصر أكثر رواجا من بيت شعره «كم ذا فى مصر من المضحكات لكنه ضحك كالبكا» إلا أن هذا البيت رغم أنه صار علامة على الكثير مما يحدث فى مصر فإنه قد فقد كثيرا الآن من معناه.. فما يحدث من مفارقات أكثره يثير البكاء منذ البداية.. أقول هذا تعليقا على الخبر الغريب عن المدرس فى الصعيد الذى أمر التلاميذ المقصرين فى أداء الواجب بإحضار حزمة برسيم معهم وحكم عليهم أن يأكلوا البرسيم حتى يعرف كل منهم أنه خروف أو ماعز، فلا يعود إلى ذلك، ويقوم بواجبه المدرسى.. مدرس لا أحد يعرف أين تلقى تعليمه وما هو فهمه للتعليم والتربية، ولابد يعانى من اضطراب نفسى أو يستخف دمه إلى درجة تثير الغثيان.. يمكن أن تضحك طبعا لكن بلا شك ستصل دهشتك إلى غايتها وتشعر بالقرف.. أعرف أن وزارة التعليم حولته للتحقيق أو عاقبته، لكن يظل الأمر خارجا عن كل ما ألفناه من أشكال العقاب.. مثل المدرسة التى أمرت التلميذة بالحجاب ولما لم تتحجب جعلت الفصل كله يضربها على قفاها.. هنا لا مجال للضحك ولو للحظة؟ هنا قرف عظيم وبكاء على ما وصلت إليه عقول المدرسين، وإذا عرفنا أن التى فعلت ذلك مدرسة يزداد القرف فليس هكذا تكون النساء.. وإذا عرفنا أن هذا كله حدث فى مدارس ابتدائية زاد قرفنا.. هذه حالات عرفت وبلاشك هناك غيرها لم تعرف، لكنهما حالتان فى مجال العلم والتربية وليس بين عصابات أو لصوص.
ننتقل إلى حادثة وكيل النيابة الذى أمر بجلد شخص متهم بالسكر ثمانين جلدة، وأمر مأمور القسم بالتنفيذ، وإذا لم ينفذ يقام على المأمور حد الحرابة.. يعنى يصلب وتقطع يداه ورجلاه من خلاف.. المأمور! عند وكيل النيابة قوانين وفى ذهنه قوانين أخرى.. طبعا رجع إلى كتاب الله الذى هو حمال أوجه.. والذى جعل العقوبات مناسبة لزمانها.. والذى فهم منه رجال القانون المصريون العظماء أن العقوبة لابد منها، لكن شكلها لابد يتفق مع العصر.. وبعيدا عن هذا الذى قد يخالفنى فيه أحد.. فالمؤكد أنه استبق الأمور ورأى حوله مليونيات ترفع شعار الإسلام، رغم أن هدفها هو السلطة والقمع فقال فى نفسه أن أحدا لن يقف ضده وستخرج المليونيات من أجله.. طبعا انتهى الأمر بالنائب العام إلى إلغاء هذا القرار، وكما سمعت تم تحويل وكيل النيابة هذا إلى التفتيش القضائى، لكن يظل للأمر معنى بعيد عن أى شىء، وهو أن هذا الوطن صار فى حالة فوضى.. لا أقول فوضى تصنعها الحكومة والنظام فقط بقراراتهم العجيبة، ولكن فوضى يضطلع بها بعض الناس الذين تصوروا الحرية هى الخروج على النظام.
محنة القضاء المؤجلة:
حدثت هذه الوقائع فى الوقت الذى كانت فيه الحملة التى أدارها النظام على القضاء فى عنفوانها.. شهدت لأول مرة مظاهرات أقامها النظام نفسه ضد القضاء انتهت بالقتال فى شارع رمسيس وضحايا وقبض على أبرياء وقدم لنا النظام فجأة مقولة فساد القضاء الذى قدم الرئيس نفسه وشاح النيل لرجاله الذين هربوا الأمريكان فى قضية الجمعيات الاهلية أو وافقوا على هروبهم.. النظام الذى أقام استفتاء على الدستور بقضاة ليسوا كلهم فى مواقع القضاء، بل كثير منهم موظفون فى سلك القضاء، متجنبا من أضربوا احتجاجا على تعيين النائب العام الجديد.
ما جرى تعرفونه جيدا ولا داعى لتكراره، لكن اللقاء الذى جرى بين السيد الرئيس والمجلس الأعلى للقضاء خرج عنه ما يشبه الاعتذار وتأكيد على احترام الرئيس للقضاء.. كأن السيد الرئيس لم يكن يعرف، وكأنه لم يعلق على هذه المظاهرات فى حواره مع قناة الجزيرة بأن هذا أمر آخر.. مما يعنى موافقته.. ليس هذا مهما، لكن المهم أن يدرك رجال القضاء أن ما جرى لا يزيد عن تأجيل المذبحة.. تماما كما تراجع الرئيس عن خلع النائب العام السابق ثم خلعه فيما بعد.. والمهم الآن أن يعرف رجال القضاء أن عليهم هم دورا كبيرا فى إعادة النظر فى تكوين القضاء.. هم عليهم أن يستبقوا كل الحجج الممكنة.. وعلى رأسها مسألة مد السن إلى السبعين التى جرت أيام مبارك من أجل أشخاص بعينهم وليس من أجل القضاة جميعا.. كيف يحدث ذلك.. هذا أمر متروك لهم تنظيمه، وأن يستغرق الوقت المناسب.. وليس هذا فقط.. بل كل ما يحيط القضاء من شبهات فى التعيين مثلا.. إذا لم يقم القضاة بذلك فسيظل المجال مفتوحا للهجوم عليهم، وفى أى وقت.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة