خارطة الشرق الأوسط يعاد تشكيلها من جديد، وكأننا بإزاء نتائج لحرب واجهها هذا الإقليم، المتغير الأهم الذى أعاد رسم خريطة الشرق الأوسط فى الواقع هى ثورات الربيع العربى، فللمرة الأولى يعاد رسم خريطة الشرق الأوسط بفعل قوى اجتماعية وسياسية جماهيرية ثورية من داخله، وليست مفروضة عليه من الخارج. بالطبع لم تكن القوى الدولية بعيدة عن مجرى التحولات التى فرضت إعادة رسم خريطة الإقليم المضطرب، فقد تدخلت تلك القوى فى ليبيا لإزاحة ما تصورت أنه حاكم مستبد معاد للغرب، ولكن خميرة التغيير حملت رايتها الجماهير، وهناك ما أغرى هذه القوى بالتدخل حيث توجد ثروة بترولية هائلة فى ليبيا، وفى مصر سارعت أمريكا بالتكيف مع حالة التغيير داخلها وقبلت بإقصاء ديكتاتور مصر وتعاملت بمرونة مع القادم الجديد لسدة الحكم وهم "الإخوان المسلمين". وفى تونس قبلت القوى الدولية بوجود حزب النهضة فى السلطة، وفى اليمن تدخلت القوى الإقليمية والدولية لفرض صيغة أجهضت أحلام الثورة والثوار هناك.
الوضع فى سوريا يبدو معقدا، فرغم سقوط شرعية النظام وحاكمه إلا أن التركيبة المعقدة ذات الطابع الطائفى والحزبى للنظام تجعله قادرا على الاستمرار فى المواجهة، كما أن القوى الإقليمية والدولية رغم رغبتها فى إسقاط النظام إلا أنها لا ترى بديلا مقنعا يجيب عن أسئلة ما بعد اليوم التالى لإسقاط بشار الأسد وعصبة النظام الطائفية، لا يوجد فى سوريا إغراء للتدخل الدولى كما فى ليبيا، كما أن الجيواستراجيا لسوريا باعتبارها مجاورة للكيان الصهيونى تمنحها حسابات معقدة يدخل فيها الأمن القومى الصهيونى.التقديرات تشير إلى النظام القادم فى سوريا سيكون للإسلاميين فيه ثقل كبير كما هو حال النظم التى جاءت إلى الحكم فى الشرق الأوسط بعد ثورات الربيع العربى، ولا يبدو النظام الدولى والإقليمى بتعقيداته ولا الإقليم المضطرب بحساسيته قابلا لمجئ إسلاميين إلى السلطة فى سوريا حتى لو كان الإخوان المسلمين وهم فصيل معتدل لو قورن بجبهة النصرة والتنظيمات الجهادية ذات الطابع الأكثر تشددا.
من يرسم خريطة الإقليم فى المنطقة لا يبدو أنه القوى الدولية وحدها التى رسمت خريطته بعد سايكس – بيكو، والتى شكلته بعد حرب الخليج الثانية مطلع التسعينيات، والتى كان لها النصيب الأكبر فى تشكيله بعد غزو العراق عام 2003، الجديد هو دخول قوى ثورية وجماهيرية على خط إعادة تشكيل الإقليم المضطرب، هذه القوى الثورية والجماهيرية مختلطة التوجهات والأيديولوجيات والمشاعر ولا تستطيع أن تعبر عن نفسها عبر قوة واضحة محددة ومؤسسية،ومن هنا مبعث القلق والاضطراب بشأن الشرق الأوسط الذى يبدو كسفينة تتقاذفها الأمواج، ولا يستطيع بعد أن يصل إلى مرفأ أو ميناء يستقر فيه.
الولايات المتحدة لا يبدو أنها راغبة فى الانخراط أكثر فى مشاكل الإقليم، وأوروبا لا تبدو قادرة وحدها فى ظل مشاكلها الاقتصادية فى أن تقف على رؤية واضحة أو خطة عمل متفق عليها، والدول العربية وجامعتها لا تبدو قادرة على أن تفعل شيئا وحدها، فهى اعتادت أن تكون مفعولا بها وليست قوة فاعلة. القوى الإقليمية الفاعلة فى الإقليم هى قوى تقليدية كالسعودية تشعر بخطر ثورات الربيع العربى على مواطنيها، أو قوى اقتصادية لا تملك مقومات الاستقلال وحدها بقرار المنطقة كما هو الحال بالنسبة لقطر أو الإمارات، أو قوى سياسية، ولكنها لا تملك القدرة وحدها على مواجهة تعقيدات الإقليم والمنطقة، كما هو الحال بالنسبة لتركيا، أو قوى متورطة فى دعم نظم قاتلة وطائفية كما هو الحال بالنسبة لإيران. لا حل لانتصار الإقليم على الاضطراب الذى يعيشه إلا بنجاح نماذج ثورات الربيع العربى داخل بلدانها، من خلال نظم سياسية تعبر عن قيم الثورة لتقول للعالم يمكننا مواجهة مشاكل إقليمنا بعيدا عن تدخل القوى الخارجية.