لكل نظام سياسى عقد اجتماعى مع أمته، وفى مصر كان هناك عقود اجتماعية متنوعة عبرت عن إدراك النظم السياسية لعلاقتها مع مجتمعها، ففى عصر عبد الناصر ظهر مفهوم الدولة القومية، التى تحتكر الحديث باسم مجتمعها، ولكنها فى المقابل تقدم لمواطنيها الخدمات التى يريدونها، من أول التعيين فى الوظائف للمتخرجين الجدد مروراً بالصحة والتعليم والمواصلات والخدمات، ومع التحولات التى شهدتها الدولة المصرية من الدولة القومية الناصرية إلى الدولة الرخوة الساداتية إلى الدولة الهشة فى عصر مبارك، تبددت ملامح العقد الاجتماعى الذى ينظم العلاقة بين الدولة ومواطنيها، واكتنف ذلك العقد الغموض، فقد تراجع دور الدولة تدريجياً، وترك النظام مواطنيه، خاصة الفقراء والشباب والمرأة والطبقة الوسطى إلى حيرة لم يعد فيها أحد قادراً على أن يعرف ماهية علاقته كمواطن مع الدولة.
كان أهم ما ابتليت به مصر فى عصر مبارك، على وجه الخصوص، عجز الدولة عن أن تكون تعبيراً عن مواطنيها، وتحولت إلى دولة ضعيفة ونظام قوى متوحش، يوظف الدولة ومواطنيها لصالح فئة من المرتبطين بالرئيس وبالنظام السياسى، وهنا واجهت الدولة سؤال الشرعية وسؤال الهوية وسؤال الإنجاز وسؤال الولاء، فلقد وظف النظام الدولة ومواردها ومواطنيها لصالح تحقيق استمراره ونخبته المتمركزة حوله، حتى لو كان ذلك ضد مصالح مصر القومية.
كانت الدولة المصرية المختطفة من قبل نظام مبارك الوحشى قد اتسعت جداً على نظام يضيق على نفسه، ويتشخصن حول مصالح دولة الرئيس وعائلته ونخبته وحزبه الحاكم الذى زور إرادة المصريين وتحدث باسمهم جميعاً، باعتباره يمثل إرادتهم جميعاًَ، وكان ذلك واضحاً فى آخر انتخابات برلمانية عقدها ذلك النظام، والتى نافس فيها نفسه وأعلن فوز نفسه بنفسه لنفسه.
الثورة قامت ودم الشهداء من ورد جناين مصر الولادة للتأسيس عن صيغة جديدة يعبر عنها عقد اجتماعى جديد لمصر وللمصريين، لا يكون فيه احتكار للسلطة والثروة أو شخصنة لها، فمصر للمصريين جميعاً، كما أسست الحركة الوطنية المصرية ذلك منذ مطلع القرن الماضى، الثورة هى النقيض الموضوعى والبديل لأى نظام يحاول احتكار الحديث باسم المصريين، أو يرى أن مصر لا تسع إلا لفصيل واحد منهم، وهذا هو جوهر ما نراه اليوم، الثورة قامت وأسقطت نظام مبارك المبتلى بالشخصنة والاستبداد والمال الحرام وتزاوج الثروة والسلطة، واستعلاء الملأ والفراعنة على بقية خلق الله من بسطاء المصريين، ولكنها ـ أى الثورة ـ لم تستطع بعد أن تؤسس لملامح عقد اجتماعى جديد يتوافق عليه كل المصريين، وصحيح أن الدستور الجديد هو العقد الاجتماعى الذى يحدد العلاقات الجديدة بين الحاكم والمحكوم وبين الدولة ومجتمعها، ولكن هذا الدستور يجب أن يحظى برضاء المصريين جميعاً، فلا يشعر قطاع منهم أو جماعة منهم أنهم مستبعدون أو مهمشون أو أن العقد الاجتماعى الجديد لا يعبر عنهم، وهنا إحدى المعضلات التى تواجهها مصر بعد الثورة، ظنى أن العقد الاجتماعى الذى تبحث عنه مصر هو عقد يتم بتراضى جميع المصريين وتوافقهم، فالعامل النفسى فى العلوم الاجتماعية وفى علاقات الحكام بالمحكومين هو من أهم الأمور التى يجب أن تكون مأخوذة فى الاعتبار، وعامل الرضى هو أحد أهم مخرجات العملية السياسية فبدون توافق ورضاء بين القوى الاجتماعية والسياسية سيبدو شبح مبارك ونظامه يلاحق من قاموا بالثورة واستشهدوا من أجل عقد اجتماعى جديد لا يستبد فيه فريق أو جماعة بالسلطة دون الآخرين.
العنف الذى نراه فى الشارع وفى السياسة وفى الممارسة المجتمعية وفى العلاقات الفردية يعكس محاولة البحث عن عقد اجتماعى حقيقى يعبر عن المصريين جميعاً، وحين يصل المصريون إلى صيغة تحقق الرضى للجميع سيتوقف العنف ونكون قد بدأنا عصر الثورة.