منذ شهر ونصف تقريبا كنت بصحبة صديق الصبا أحمد مجاهد وعدد من التشكيليين، وكانوا يتحدثون عن سلسلة جديدة يفكرون فى إصدارها تلقى الضوء على التنوع الذى تشهده الحركة التشكيلية فى مصر، طرحت أولا اسم جميل شفيق فبانت الفرحة على وجوه الجميع، وأصر مجاهد على مهاتفته فى التو واللحظة، بعدها بيومين التقينا فى هيئة الكتاب، واستقرا على إسناد مهمة الإخراج الفنى للصديق الفنان الدكتور خالد سرور، وبدأ الرجل فى جمع أعماله، وانتهى - بعد عناء - الأسبوع الماضى، وتم تحديد الأحد - يوم إقالة مجاهد من رئاسة الهيئة - للاتفاق على التصور النهائى للكتاب بين جميل وخالد، جلسنا فى أحد مطاعم وسط البلد، وبدأ الفنان الكبير فى فتح دولاب عمره، ووضعنا فى حالة سحرية وهو يعرض علينا صورا من أعماله، تبدأ من عام 1957 حتى التى لم تعرض بعد، الكتاب المنشود تم تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء، الأول الاسكتشات، والذى تظهر من خلاله مهارات جميل فى التقاط الوجوه والبيوت والأحزان ورشاقة ريشته وروحه، مئات من الومضات الشجية والحريفة التى تؤرخ للفنان وزمنه، الجزء الثانى هو الخاص بالأعمال التى تعرف عشاق الفنان عليه من خلالها، وهى لوحات الأبيض والأسود، التى جعلت منه شيخ طريقة فى الرسم، تعتمد على مواهبه الفطرية والموسيقية التى صقلتها دراسته الأكاديمية «خريج فنون جميلة 1962»، يجمع بين السريالية والميتافيزيقية والتعبيرية والواقعية، ويمشى تحت غلالة صوفية شفافة، تؤكد أن الرجل الذى ولد بجوار السيد البدوى فى طنطا سنة 1938، يحمل بداخله أشواق الدلتا وأحزانها، ويقدم للرسم شيئا مختلفا وطازجا، مفرداته بسيطة لدرجة مربكة، يغزلها بالأبيض والأسود، السمكة تقوم بدور البطولة فى معظم أعماله، هى أول صيد ظفر به الإنسان بيديه العاريتين، وجعلها التراث الإنسانى رمزا للرزق والخير والخصوبة والجنس، وتقول الأسطورة إن السيد المسيح أطعم بسمكة واحدة آلاف الجياع الواقفين على الشاطئ، ستجد المرأة والقطط والأحصنة والجاموس وراقصات خرجن من الخيالات الأولى، ستجد موسيقى منسابة مع الخطوط الدقيقة، فى كل عمل مفاجأة، ورغم متابعتى لهذه المرحلة منذ معرضه الأول «الذى افتتحه نجيب محفوظ1989» شعرت بجهل شديد، لأننى اكتشفت أننى أمام مشروع عملاق من الرقة والإخلاص والموهبة، يجب أن يتعرف عليه الجميع، الراحل الكبير بيكار كتب عن جميل شفيق «يقدم للنفوس المستعدة البساط السحرى الذى يقودها إلى عوالم لا تخطر على بال، إنها رحلة «سندرلية» تغرى المشاهد على الالتصاق بمفردات اللوحة ومحاولة الاقتراب من مغزاها الأسطورى، فيصاب بنوع من النشوة والغيبوبة الشبيهة بأحلام اليقظة، حتى إذا ما حاول تعرية هذه الرموز الباطنية من عبقها السحرى فشلت جهوده واستسلم للإملاءات العاطفية التى لا تقاوم، والتى يفرضها نسيج اللوحة فى غير ما حاجة إلى تأويل ولا تفصيل.
الجزء الثالث الذى أطلعنا عليه هو منحوتات طرح البحر، التى شاركته الطبيعة فى صياغتها، ظل لسنوات يجمعها من الشاطئ ليصنع منها أعمالا لا يقدر عليها غير الأطفال والمتصوفة، جميل شفيق الذى عرفته عن قرب مع أساتذتى وأصدقائى نجيب محفوظ وحجازى الرسام وبهجت عثمان وفؤاد قاعود وسيد خميس وأصلان والبساطى رحمة الله عليهم جميعا وأنا فى أول العمر والذى سافرت معه كثيرا خارج مصر، ويطربنى صوته الشجى وتكون وسط البلد فرحانة عندما يطل عليها وهو فى القاهرة، منحنى الأحد الماضى ثلاث ساعات بأعماله العظيمة أملا جديدا فى مصر المبدعة.