أغلب الفضائيات الإخبارية والترفيهية، الأكثر مشاهدة، وتأثيرا وتمويلا وانتشارا هى فضائيات خليجية، بمعنى أنها تابعة فى ملكيتها وتوجهاتها السياسية إلى أحد البلدان الخليجية أو إحدى الشركات التى يمتلكها رجال أعمال خليجيون تربطهم علاقات صداقة أو تحالف مع واحدة أو أكثر من الحكومات الخليجية، الأمر الذى ينعكس على خطاب تلك الفضائيات ومواقفها، والمفارقة أن هذه الفضائيات ارتفع صوتها ترحيبا بثورات الربيع العربى، وأيدت الثوار، ومع ذلك تجاهلت دعاوى الإصلاح والتغيير فى دول الخليج، وسكتت عما جرى فى البحرين، ووقفت إلى جانب تجديد واستمرار النظام القديم فى اليمن، فضائيات الخليج الإخبارية تعمل بمعايير مزدوجة، وتصدر الخطاب الثورى الديمقراطى إلى خارج دول الخليج، لكنها تقدم مستويات عالية من الإبهار التقنى والشكلى، وتواكب الأحداث بسرعة ومرونة من دون تقديم تفسير أو فهم يتعارض ومصالح حكام الخليج، أيضا تتميز فضائيات الخليج بأنها تعمل على أساس عربى - عربى، كما أن معظم العاملين فى الفضائيات العربية ينتمون إلى دول غير خليجية، وذلك كله بهدف تحقيق الهيمنة الثقافية والإعلامية على الجمهور العربى، وضمان أكبر قدر من كعكة الإعلانات والمسابقات والاتصالات الهاتفية، وأعتقد أنه منذ دخل العرب عالم البث الفضائى نجحت المجموعات المالية الخليجية فى تحقيق أهدافها، ووصل هذا النجاح إلى ذروته من وجهة نظرى مع انفجار ثورات الربيع العربى، حيث ارتفعت معدلات مشاهدة القنوات الإخبارية الخليجية التى اهتمت بتغطية ثورات العرب بصيغ مبهرة تجمع بين متعة الفرجة والاستعراض والتمشهد والنقل الدرامى للأحداث، بغض النظر عن جودة المحتوى أو تفسير الأحداث، لكن مع نهاية الأحداث الساخنة فى الربيع العربى والدخول فى مرحلة بناء الأنظمة السياسية الجديدة، بدأت الفضائيات الإخبارية الخليجية فى التراجع، وبما يؤشر إلى نهاية الهيمنة الخليجية.. كيف؟
قبل الحديث عن أسباب هذا التحول هناك مؤشرات ونتائج دراسات ومسوح جمهور تؤكد تراجع فضائيات الخليج الإخبارية لصالح تقدم فضائيات إخبارية وعامة مصرية وتونسية وجزائرية وسورية، أى أن القنوات الفضائية التى تركز على الشأن المحلى تتقدم بينما تتراجع الفضائيات الإخبارية الخليجية ذات الاهتمام العربى، كما أن قناة فرنسا 24 تتقدم فى تونس والجزائر على حساب القنوات الخليجية، القصد أن المحلى أو «الوطنى» ينتصر على العربى، رغم أن كلا منهما يعتمد على البث الفضائى، كما أن أى قناة خاصة مصرية قد يتابعها جمهور سعودى أو جزائرى، القصد أن المهنية والتركيز على الشأن المحلى الوطنى يضمن التفوق على الفضائيات الخليجية الإخبارية ذات الإمكانيات المالية والبشرية الكبيرة، طبعا التركيز على المحلية والفورية لا يفسران أسباب تراجع الفضائيات الخليجية، وإنما هناك أسباب أخرى عديدة، أهمها أن عملية بناء النظم السياسية فى تونس ومصر وليبيا والصراع الدائر بين الحكم والمعارضة فى هذه الدول يتطلب قدرا أكبر من التوازن والحياد وهو ما لا يمكن للفضائيات الخليجية الوفاء به، خاصة أنها وقعت منذ البداية فى أخطاء التحيز لأحد أطراف الصراع الداخلى على حساب بقية الأطراف، ولدى هنا فرضية غريبة، هى أن المشاهد فى مصر مثلا قد يتسامح مع تحيز قناة محلية يمتلكها رجل أعمال، لكنه لا يتسامح مع فضائية عربية كان يفترض أنها تلتزم بالحياد والتوازن، وقد تعكس تلك الفرضية تحمسا زائدا للوطنية المصرية لكنها تظل مجرد فرضية، قابلة للبحث والنقاش.