انشغلت الفضائيات والصحافة بحكم المحكمة الدستورية فى حق رجال الشرطة والجيش فى التصويت فى الانتخابات، والترشح فى العمل السياسى.. هناك من انتفض بشدة ضد الفكرة، ووصل فى نكرانها واستنكارها إلى حد وصفها بأنها الطريق إلى حرب أهلية. للأسف كان هذا تعليق الدكتور سعد الدين إبراهيم، أو هذا ما قرأته عنه، وهو عالم الاجتماع الكبير، وصاحب التجربة السياسية الصعبة أيضاً، وتحت هذه الفكرة أفكار أخرى كثيرة للمعارضين، أبرزها أن هرمية الجهاز العسكرى أو الشرطى ستكون سببا فى طاعة الرتب الأصغر، ومن ثم لا تتحقق الديمقراطية، لأنه لم يتحقق الاختلاف، ولم تتحقق الحرية.
ومن الناحية الأخرى كان أبرز المؤيدين للرأى يستند إلى الحق الطبيعى للمواطن، وإلى سرية عملية الاقتراع، مما سيفشل أى محاولة للأمر أو السيطرة. وأنا من الموافقين على حكم المحكمة الدستورية بهذين الحقين لرجال الشرطة والجيش، طبعا لأن هذا حق طبيعى لأى مواطن كما قيل، وتحقق لفكرة المواطنة، وهذا ما استندت إليه المحكمة الدستورية، وأيضا لأسباب أخرى لا يتحدث عنها أحد.. نحن للأسف نفهم الديمقراطية فى هلع، هلع فى الطلب، وهلع فى الرفض، نفكر فى الموانع قبل أن نفكر فى الأصول، وطبعا أبرز الموانع التى تقال أيضا هو أن هذا يتيح عودة الحكم العسكرى، ولا نفكر أبدا فى أنه لا معنى للديمقراطية بشروط، وأنها لا تحتاج إلى أرض مستعدة لها بأكثر مما تحتاج إلى الممارسة، ومع الممارسة تفرز ضوابطها إذا كان لابد من ضوابط. فى الديمقراطية لا أحد يمتلك حق الوصاية إلا الممارسة، وعلى عكس ما يتصور الجميع، فهذا الحق لرجال الجيش سيجعلهم يفرقون بين الحياة السياسية والحياة العسكرية، على عكس ما هو متوقع. يمكن جدا أن يكون التاريخ العسكرى شفيعا لأى مرشح عسكرى، بل سيحدث هذا، لكن كونه مرشحا على أساس ديمقراطى سيجعله يعى أن هناك فارقا كبيرا بين أوامره فى الجيش لجنوده، وخطابه للشعب، يمكن جدا أن توقعنا الممارسة فى حظ عاثر أول مرة، لكنها لن توقعنا فى حظ عاثر كل مرة، لأنه كما جاء سيذهب، هو لم يأت بانقلاب، أتى به الشعب ويستطيع أن يثور عليه، أو يعارضه بكل أشكال المعارضة السلمية الممكنة، هذا سينهى مع الوقت القسمة التى جرت فى مصر بين الناس والعسكر، والتى سببها الأكبر هو سيطرة العسكر على الحكم بكل أشكاله منذ ثورة يوليو 52، ولهذه الأسباب أرى فرصة العسكرى فى الوصول للحكم ديمقراطيا الآن صعبة، لكن ممارسته لها مهمة، وسيكون لها الأثر فى المستقبل، وحين يأتى الرجل العسكرى تاركا مهنته، سيكون على دراية بأن هناك دستورا يجب احترامه، وحقوقا للإنسان الذى أتى به يحب احترامها. الوقت هو الميزان لهذه المسألة، وطبعا إذا قلت إن ديجول وأيزنهاور كانا عسكريين سيرد علىّ الرافضون أن ذلك حدث فى أوروبا وأمريكا، حيث الديمقراطية مستقرة بآلياتها، ولا يستطيع أى مرشح مهما كانت أصوله الخروج عليها. ومن ناحيتى أرد أنه بدون فتح هذا الطريق ستظل الديمقراطية منقوصة، وسيظل الشعب غير متمرس عليها، وسيظل العسكريون غير متمرسين عليها. على الناحية الأخرى - الشرطة - سيكون الأمر أكثر فائدة، الشرطة أصلا أُنشئت لتكون فى خدمة الشعب، لكنها تحولت دائما لتكون فى خدمة الحاكم. ممارسة رجالها للديمقراطية ستغير كثيرا من الطباع البشرية، تصور أنت أن يقبض عليك لأنك متهم بالمعارضة للنظام السياسى، ويعرف الضابط أن من بين زملائه من هو معارض لهذا النظام مثلك، أو من هو فى حزب ليس فى الحكم مثلك، ستختلف المعاملة، فضلا على أن الحاكم نفسه لن يستطيع أبدا أن يأمر الشرطة بالقبض على معارضيه، أو تلفيق القضايا لهم، سيعرف الشرطى المنفذ أن الرقابة عليه لا تحتاج إلى هيئات أو مؤسسات لكنها حوله وبين زملائه، هو أو أى منهم أيضاً، سيلتزم حدود القانون فى التعامل مع البشر، مجرمين وغير مجرمين، وسيتعود على أن السياسة خارج أبواب القسم أو السجن، وفى الحالتين سينفتح الطريق إلى الطموح فى المشاركة الاجتماعية والسياسية، وستتسلل الثقافة السياسية على أصولها، وليس فقط ما يتم تدريسه فى كليات الشرطة أو فى أقسامها المختلفة بطريقة أحادية الفهم. الأمر نفسه سيحدث فى رجال الجيش، وسيعرف رجال الشرطة والجيش- رغم ذلك- كيف يفرقون بين عملهم الوطنى فى حالة الجيش، وعملهم الجنائى فى حالة الشرطة، وبين عملهم وسط الشعب ومعه.. باختصار إن ما جرى فى الشرطة والجيش من استبعاد عن العملية الديمقراطية لم يضعهما فى الموضع الذى أراده من فعل ذلك، لقد ادعى عبر ستين سنة أنهم فى خدمة الشعب «الشرطة»، وفى خدمة الوطن «الجيش»، والنتيجة أنهم حكموا هذا الشعب وأرهبوه وتميزوا عنه فى كل شىء، حتى فى الكلام ونبرة الصوت، وتصرفوا فيما يحكمون بلا رقيب إلا من وضعهم فى السلطة، والذى لم يكن محتاجا منهم إلا السمع والطاعة.. كم مدنيا تولى محافظات مصر قياسا على العسكريين والشرطة؟ وماذا جرى فى محافظات مصر من تخلف وخراب، لأنه لا رقيب إلا الحاكم، ولأنه أيضا سيادة المحافظ، أو غيره من رؤساء القطاعات لم يتعود أن ينتقده شخص من آحاد الناس؟. وهكذا صارت الدولة العميقة هى السيد، وهى الحاكم الحقيقى، إعطاء هذا الحق للشرطة والجيش سيقابله اعتراف بحق الشعب فى الرقابة والمراجعة، اعتراف يتسلل إلى النفوس شيئا فشيئا، سنحتاج إلى وقت؟ ليكن، لكن دخول هذا الطريق هو الأمثل والأصح، وعلى الخائفين أن يعرفوا أنه بدون ذلك سيظل الحاكم قادرا فى أى وقت على التغافل عن خطايا وأخطاء الشرطة، فهى فى النهاية تصب فى صالحه، ونحن نرى ذلك الآن واضحا رغم أنه حدثت ثورة، لكننا نرى أيضا من رجال الشرطة من فرح بهذا الحكم، وقد يرى البعض أن فرحهم لأنهم سيتسيدون الحياة السياسية، وكأنه لا يرى أنهم كذلك فعلا، لكن بالباطل وبلا رقيب، الأصح أنهم سيدخلون دولاب الحياة السياسية من بابها الصحيح، والأمر نفسه بالنسبة للجيش، وستنتهى الدعوات المتسرعة بنداء الجيش إلى انقلاب عسكرى تخلصا من الديكتاتورية القائمة دون النظر إلى أن ذلك هو نوع آخر من الديكتاتورية أضر مصر كثيرا من قبل. فارق كبير أن يأتى رجل جيش بأصوات الشعب، وبين أن يأتى بالقوة تحت أى شعار، كل شعارات العدالة دون ديمقراطية واختيار حر تتحول إلى ظلم، أما كيف لا تكون السياسة موضوعا داخل العمل، فهذا أمر سهل يمكن أن ينظمه القانون، وليس أسهل منه فى عصر الميديا التى لا يخفى عليها أى شىء.