تفجيرات بوسطن نفذها طالبان مسلمان من الشيشان يدرسان فى أمريكا.. أما تفجيرات مترو لندن فقام بها مسلم بريطانى من أصل باكستانى، وهذا قد يطرح أسئلة فقهية وشرعية مهمة ينبغى أن نجيب عليها بكل وضوح: ما هى سنن الإسلام فى ديار غيرهم؟
وماذا يفعل المسلم الملتزم بدينه الذى يعيش فى بلد مثل أمريكا أو بريطانيا أو كندا أو أستراليا سواء ذهب إلى هناك لاجئا أو حمل جنسية هذه البلاد أو عاش فيها لفترة من الفترات؟ وهل يجوز له أن يقتل أو يفجر أو يدمر منشآتها لأنه يختلف مع سياسات هذه الدولة أو لا يرضى بسياساتها.. أم ماذا؟ وهل هناك سابقة حدثت من قبل مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) والصحابة تبين لنا نموذجا صحيحا لهذه العلاقة؟
لقد كتبت منذ عشر سنوات فصلا بعنوان «سنن الإسلام فى ديار غيرهم» بمناسبة تفجيرات 11 سبتمبر، وتحدثت عن اللاجئين من الصحابة إلى ديار الحبشة فى أمان النجاشى. فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة.. فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد».. فهاجر إلى الحبشة 83 رجلا و19 امرأة من الصحابة. وفى هذا دلالة على جواز أن يأوى المسلم إلى مجتمع غير مسلم يجد فيه أمنه وأمانه وحرية عبادته وعقيدته. وهؤلاء الصحابة الذين ذهبوا للحبشة لم يقوموا بهدم كنيسة أو حرق حانة خمور أو قتل مواطن حبشى.. وتحاشوا الصدام مع الدولة الحبشية أو شعبها وأثمر حسن الجوار هذا حماية مطلقة من النجاشى لهم حتى أنه رفض رأى بطارقته ومعاونيه جميعا بتسليمهم إلى قريش حتى قال لهم: «لن أسلمهم مهما نخرتم.. أى غضبتم».. وقال للصحابة: «اذهبوا فأنتم «شيوم» أى طلقاء آمنون فى أرضى.. من سبكم غرم.. وما أحب أن لى جبلا من ذهب وأنى آذيت رجلاً منكم»، وما كان لهؤلاء النفر الغرباء المهاجرين أن يحظوا بهذه المنزلة والرعاية إلا بسياستهم ودبلوماسيتهم الحكيمة.. وعدم خرقهم لقواعد الأمن للحبشة.. حتى إنهم ناصروا النجاشى على من أرادوا الانقلاب عليه بغير حق.. حتى قالت أم سلمة: «فوالله ما علمنا حزنًا حزناه قط كان أشد علينا من حزن حزناه عند ذلك تخوفًا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشى فيأتى رجل لا يعرف من حقنا ما كان يعرف النجاشى» وتبين أم سلمة العلة من نصرتهم له وهو أنه يعرف حقهم ولا يظلمهم ولا يسلمهم لخصومهم وأعدائهم من قريش.. فلما انتصر النجاشى فرح الصحابة فرحا شديدا.. حتى قال الزبير بين العوام الذى جاءهم بالخبر «ألا أبشروا فقد ظهر» أى انتصر «النجاشى».
فهذه سنة المسلمين فى ديار غيرهم أنهم لا يتخذون من الأمان والحرية التى أعطيت لهم سببًا فى تدمير هذا المجتمع أو قتل وترويع أبنائه. فالفيزا التى تسمح للمواطن بدخول دولة أخرى تحمل فى معناها الفقهى معنى الأمان المشترك الذى تعطيه الدولة لحاملها.. والذى يعطيه حاملها للمجتمع كله الذى منحه هذه الفيزا.. ولى كتابات موسوعية فى تطبيقات فقه الأمان المعاصر يضيق هذا المقال عن بسطها.. وقد كانت هذه المجتمعات ملاذًا آمنًا قبل 11 سبتمبر للدعاة والمطاردين من الإسلاميين من بلادهم.. فلما أخل بعض الإسلاميين بمنظومة الأمان شحن الإسلاميون من كل مكان فى العالم إلى السجون والمعتقلات والتعذيب والمحاكم العسكرية فى بلادهم.
لقد أدرك الإسلام بحكمته وعظمته حاجة البشرية إلى حدود من الحرية فى التنقل والإقامة فى أمان أيًا كانت العلاقات بين الدول.. وأيًا كانت الحالة السائدة بينها سلما أم حربا، لقد أدرك الإسلام أن الناس لا يستغنون عن الحركة والتنقل والإقامة المؤقتة بين الدول لأن هناك من الأغراض التى لا غنى للإنسان عنها يجب ألا تتوقف.. ويجب ألا يمنعها حتى نشوب الحرب حتى لا تتوقف الحياة.. فمنظومة الأمان التى شرعها الإسلام هى منظومة متكاملة تعطى الأمان للمسلمين وغير المسلمين فى تبادل رائع لمنظومة الأمان التى شرعها الإسلام العظيم حتى فى أوقات الحروب ولولا ذلك ما استطاع تاجر ولا سائح أو مستثمر أو طالب علم أو طبيب أو مريض أن يقضى حاجته فى الأوطان الأخرى.. وأعظم ما فى هذه المنظومة قوله (صلى الله عليه وسلم) «ويسعى بذمتهم أدناهم».. أى أقلهم شأنا ومالا وجاها وذلك تعظيمًا لمفهوم الأمان الشامل بين الأمم.. وكذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) «قد أجرنا ما أجرت يا أم هانئ».. ليقر بأمان المرأة متمما لمنظومة الأمان التى أقرها هذا الدين العظيم الذى غفل البعض عن إدراك عظمة تعاليمه.