«هاتولى ابن الـ.. اللى جاى هناك ده أما نشوف آخره إيه هو والعربية اللى الست الوالدة جايباها له دى».. بهذه الكلمات صاح الباشا فى الأمناء والعساكر الذين أحاطوا به فى تلك اللجنة المرورية المقامة على الطريق الزراعى بتلك المنطقة من الوجه البحرى، وقد التقط الرادار تلك السيارة المسرعة التى تبدو قادمة فى الأفق من بعيد.. فى ثوانٍ كانت السيارة على مشارف اللجنة، وقد تعالى صرير عجلاتها أثناء محاولة قائدها كبح جماحها قبل أمتار قليلة من الحواجز المعدنية.. تقدم الشرطى فى خطوات غاضبة، وضرب بكف يده على سقف السيارة الرياضية، وصاح بعصبية خشنة: «رخصك».
ببطء فتح صاحب السيارة الشاب زجاج سيارته الذى اتشح بسواد قاتم بسبب «الفاميه السوبر بلاك» أخفى معالم ما بداخلها تماما، وحدق فى الضابط الذى يطالبه بالرخصة من خلف زجاج نظارته الشمسية التى تنافس فى سوادها سواد زجاج سيارته، وببرود أخرج «كارنيه»، ما إن رآه الضابط حتى اعتدل فى وقفته باحترام، وقال بصوت يقطر بالأدب، وقد تلاشت منه نبرات الغضب: «لا مؤاخذة يا سعادة الباشا اتفضل اتفضل طريق السلامة معاليك».. دوى صرير العجلات مجددا، وتصاعدت رائحة احتكاكها بالأسفلت، وما أن غابت السيارة عن ناظرى الضابط حتى ألقى هذا الأخير سيجارته، وبصق بتقزز، ثم أخرج هاتفه من جيبه، واتصل بمنزله ليطمئن على وصول سيارة «البوكس» الميرى التى أرسلها لتقل أبناءه الباشوات الصغيرين من مدرستهم، وأبلغ زوجته أنه قادم بعد قليل. توجه إلى سيارته التى تركها بجوار اللجنة، ودلف إليها فى عصبية وأنزل زجاجها الذى لم يكن أقل سوادا وعتمة من زجاج سيارة الباشا الآخر، وارتدى نظارته الشمسية ثم انطلق على الطريقة «الأمريكانى» نفسها وبذات السرعة الجنونية التى ضايقته منذ قليل، بينما الأمناء والعساكر يفسحون له الطريق ويرفعون أيديهم بالتحية قائلين بتزلف: «ألف سلامة يا باشا».
تسلم معالى الأمين الأكبر سناً اللجنة، وبدأ فى تقاضى الإتاوات والرشاوى من السائقين المساكين الذين أوقعهم حظهم العاثر بين براثن هذا الذى هو بالنسبة إليهم أيضا «باشا».. هذه المشاهد ليست مشاهد من قبل الثورة أو أفكارًا خيالية من ذهن الكاتب، وإنما هى مواقف يومية متكررة تحدث فى مصر الثورة.
فى صباح الثانى عشر من فبراير 2011 لم نكن لنتصور قط أن نرى مثل هذه المشاهد بعد ثورة كان من أهم مطالبنا فيها التغيير والعدالة، تلك العدالة التى من المفترض أن يكون أولئك المنوط بهم تحقيقها هم أول من يطبقونها على أنفسهم وذويهم قبل غيرهم، لكن هيهات هيهات، إن للقوة وللنفوذ بريقا لا يقاومه إلا من رحم الله، وفاقد الشىء لا يعطيه وها قد عادت ريما لعادتها القديمة، أو ربما هى لم تغير عادتها أصلاً.. سيارات الشرطة عادت لتُقل أبناء الضباط ليوفروا على أنفسهم كلفة «الباص»، الذى يقوم المواطنون من نفس طبقتهم المتوسطة بعمل جمعيات لسداد أجرته، أو يضطرون لإرسال أبنائهم سيرا على الأقدام كأغلب تلاميذ مصر.. ولم يزل زجاج سيارة الباشا الضابط ووكيل النيابة والمستشار أسود من الليل البهيم، ولم يزل الباشا يتجاوز أى لجنة بكل أمان وسلام حتى لو كان هناك ألف سبب لسحب رخصته أو حتى لسحب سيارته، ولم يزل الباشا أمين الشرطة يحصل الإتاوة والرشوة كما يحصلها الموظف العام وكثير من القائمين على مصالح العباد وغير ذلك من الممارسات التى لا يتسع المقال لذكرها والتى تشرئب كل يوم شيئا فشيئا.. باختصار لم يزل الباشا باشا والغلبان غلبان، واتضح أن ابتسامتنا السعيدة صبيحة يوم التنحى كانت ابتسامة ساذجة، وقد ظننا أننا قد أسقطنا مع الباشا الكبير كل تفرقة واستعلاء وغرور وظلم وفساد ومحسوبية، وصرنا على مشارف دولة متحضرة عادلة لا فضل فيها لقوى على ضعيف ولا لغنى على فقير ولا لوزير على غفير، وليس فيها باشاوات ولا عبيد إلا لله، لكن للأسف فى كل يوم يتأكد لنا أكثر أن الباشوية فكرة متفشية فى عقول ونفوس كثير ممن يمتلكون سلطانا يظنون به أنهم أفضل أو أعلى شأنا من غيرهم، وطالما ظلت المحاسبة والقصاص والعدالة والحقوق مجرد كلمات «فض مجالس» أو ديباجات فى خطب الساسة، ولم تترجم إلى ثورة حقيقية على كل تجاوز وظلم واستعلاء ويدفع كل من تجاوز واستعلى ثمن تجاوزه باهظا فسيظل زجاج سيارة الباشا أسود تماما كسواد كبره وظلمه واستعلائه على عباد الله الذين خلقوا أحرارا أعزة رغم أنف الباشا وكل باشا.