الديكتاتور الذى عاش معزولا ومتسلطا، لدرجة أنه عندما مات لم يصدق الشعب أنه مات، فقد كان يتحكم فى كل شىء.. يضع القوانين ويغيرها ويخالفها بقوانينه الخاصة، يأمر بالديمقراطية على طريقته، ويقرر أى قدر من الحرية يحتاج الشعب، يغير ولا يتغير، ويتصور دائما أنه وحده الذى يمتلك العقل والذكاء اللازمين للحكم، وأنه هدية منحتها السماء لشعبه، يجب أن يصلى ليشكره من أجلها.
يبيع هواء المحيط للقوة العظمى حتى يضمن حمايتها، فى عزلته يفقد شعوره بالزمن أو بالشعب، ولم يكن يستمع إلا لطنين أذنيه، هو وحده العارف الفاهم.. يتعامل مع محاولات التمرد والانقلاب بعنف بشع، لدرجة أنه طبخ زعيم الانقلاب، وأطعم لحمه لرجال الحكم.
الروائى الكولومبى الأشهر جابرييل ماركيز خلد الديكتاتورية فى روايته «خريف البطريرك»، لكنه يقدم العوامل المشتركة بين الديكتاتورات، فهو كائن أسطورى خيالى يستمر رغما عن قوانين الطبيعة، لا يهتم بغير الحفاظ على نبضات قلبه، بغض النظر عما إذا كان عقله قد تكلس، وفقد قدرته على التفكير، وخلف مظاهر الأبهة والجبروت يبدو كائنا ضعيفا خائفا، تزداد عزلته، ويزداد حذره، ويبدأ مع طول الوقت فى البحث عن طريقة لإبقائه حيا للأبد، بصرف النظر عن الخراب الذى يتسبب فيه مجرد استمراره فى الحكم. يمسخ من حوله، ويحرص على اختيار الأكثر ولاء حتى لو كان غبيا أو تافها أو فاسدا، وفى كثير من الأحيان يكون الفساد شرطا لإتمام السيطرة، وتسهيل التخلص عند اللزوم.
يحاول دائما أن يبحث عن مبررات لفشله يلصقها بمعاونين أغبياء، ولا يتصور أبدا أنه هو ذاته المشكلة التى تحول دون أن تتقدم البلاد، أو تنتقل إلى مكان وزمان آخرين.
الزمن يتوقف عند أزمنة عقل الديكتاتور، والمكان هو فقط الذى يحتله، ويحيطه بالحرس المحروسين بالحرس، حتى تتحول دوائر الحماية إلى سور يعزله أكثر، وكلما زادت العزلة، تضاعف الحذر، واشتدت القبضة المتسلطة.. الديكتاتور لا يفسد وحده لكنه يصبح قادرا وراغبا فى إفساد من حوله، وفى أقصى لحظات شعوره بالقوة والسيطرة يكون ضعيفا، لكن طنين أذنيه والمحيطين به يقنعه بأنه الحاكم الأقدر والأذكى والأكثر براعة ودهاء.. تنمو الطحالب على جسده، يتعفن فى عزلته ووسط حرسه، دون أن يدرك قوانين الزمن.
نموذج الديكتاتور الذى رسمه ماركيز قبل عقود تطور بحكم الزمن، لكنه احتفظ بنفس الملامح، وهو لا يوجد فجأة، لكنه يتكون عبر الشهور والسنين، يساهم فى صنعه محيطون ومنافقون ومستفيدون وفاسدون. فالديكتاتورية تلد الفساد خطوة وراء خطوة، يفسد ما حوله ومن حوله، ولا يغادر الحكم إلا بالموت أو الانقلاب.. بعض الديكتاتورات يأتون بالانتخاب الذى يكرهونه ويرفضونه، يأخذون منه ما يفيدهم، وسرعان ما يلقون بالسلالم التى صعدوا عليها، يكذبون وينقلبون على حلفائهم، يفضلون الاستماع لمن يطرب آذانهم بالنفاق والمديح.. هم دائما على حق حتى وهم يفسدون ما حولهم، بل إن بعضهم يعيد كتابة التاريخ ليضع لنفسه مكانا مناسبا.
لقد عرفنا أنواعا من الديكتاتورات، تساقطت فجأة كأوراق الخريف، لكن هناك من يسعى لصناعة ديكتاتور جديد بمواصفات جديدة، ولا يعرفون أن الدنيا تغيرت.