لا أدرى هل تأخر الوقت على ما سأكتبه الآن أم لم تزل هناك فرصة لكتابته، لكن عزائى أنها ليست المرة الأولى التى أكتب فيها محذرا من تلك الهاوية التى ننزلق إليها بسرعة الصاروخ.. هاوية الانقسام والتفرق والتشرذم.. هاوية يصر البعض بقصد أو بغير قصد أن يدفعوا البلاد إليها، كتبت وكتب غيرى مرارا عن خطورة تحويل كل أزمة أو خلاف أو نزاع سياسى إلى معقد ولاء وبراء ومسألة مفاصلة يتمايز فيها الناس إلى فريقين، فريق حق وفريق باطل، وكيف أن الممارسة السياسية لا ينبغى أن تتحول دائما إلى مجموعات من المشجعين المتعصبين تشابه إلى حد بعيد روابط تشجيع فرق كرة القدم، وبينت كثيرا أن الإنسان بطبيعته عنيد، وأن أحد أهم أسباب الاحتقان الشعور بوجود مخالف منغلق على نفسه متعصب لرأيه يؤيد أو يعارض بأحادية، وعلى طول الخط، ولقد بحت أصواتنا فى بيان أن التقارب المجتمعى من أهم عوامل استقرار البلاد، وأن بديله الذى تساق إليه البلاد من جزر متنافرة متخاصمة فى كل جزيرة أنصار وأتباع سيؤدى إلى كارثة حقيقية، لكن يبدو أن كل ذلك كان للأسف بلا فائدة.. هناك من يصر على ذلك التقسيم، ويعمق بحماس هوة لا ينتفع بها إلا أعداء الوطن. وعلى الجانبين فى كل صراع تجد المقتاتين على الصراع يتصايحون، ويكتمون أى صوت مخالف لهم بدعوى «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».
يا لها من مهزلة.. بل يا لها من فتنة.. حين يتوعد الناس بعضهم علنا بالقتل والانتقام، وحين يفقد الناس عقولهم كما ثبت الحديث فى السلسلة الصحيحة: «إن بين يدى الساعة الهرج»، قالوا: وما الهرج؟ قال: القتل، إنه ليس بقتلكم المشركين، ولكن قتل بعضكم بعضا، حتى يقتل الرجل جاره، ويقتل أخاه، ويقتل عمه، ويقتل ابن عمه، قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ؟ قال: «إنه لتنزع عقول أهل ذلك الزمان، ويخلف له هباء من الناس، يحسب أكثرهم أنهم على شىء، وليسوا على شىء»، فما الفتنة إن لم تكن هذه؟! حين يَصُمّ كل طرف أذنيه، ويرفض مجرد النقاش، ويرى فى نفسه الحق المطلق الذى لا دخن فيه وخصمه الباطل الخالص الذى لا خير فيه. وحين يصر كل طرف أنه لابد من زوال مخالفه زوالا لا بقاء بعده، وكأن هذا الوطن لم يعد يسع الجميع، فما الفتنة غير ذلك؟ وللأسف الشديد لم يعد يحق لك أن تناقش الطرفين، أو أن تدعوهم إلى التعقل، فحينئذ أنت مخذل مثبط عن ساعة المفاصلة التى لابد لطرف أن يفنى فيها الآخر، المطلوب الآن ألا تتحدث إلا بما يتحدثون، وألا ترى إلا ما يرون، وإن جربت يوما أن تفكر خارج صندوقهم، أو تكون فاعلا وليس مفعولا بك، فالرفض ينتظرك والازدراء والتخوين مآلك.
وكان الأولى بكل فصيل أن يعرض نفسه على أنه فقط صاحب اجتهاد ورؤية يمد يده لإخوانه ليتآزر الجميع ويتعاونوا لبناء هذا الوطن بشراكة حقيقية لا يستعلى فيها طرف على الآخر بدلا من هذا الاستقطاب الخانق.. ترانى حالما خياليا؟! ترانى أقول أشياء قد فات وقتها؟! فلتر ما تشاء ولتعلم أننى وغيرى قد حاولنا كثيرا من قبل لكن للأسف.. لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، هذا هو الشعار والمطلوب من الكل أن يسير فى ركابه، مطلوب من الكل أن يأتى بأشد نماذج التطرف والبغى لدى كل طرف ليعرضها على أنها حقيقة خصمه وعموم حال مخالفه. لابد أن يأتى الإخوان وإعلامهم بنماذج من الملحدين والفلول وكارهى الدين ليصوروا أن هذا حال كل معارض لهم وكل ساخط ناقم على حكمهم. ولابد أن يأتى الآخرون وإعلامهم و«برنامجهم» الساخر بكل من يتوعد ويهدد ويعنف ويعرضونه على أنه حال كل إسلامى أو «خروف متأسلم» كما يحلو لهم تسميته، وليخفت صوت العقل ولتتوارى الحكمة وليصمت كل من يرفض الانسياق إلى هذه الطريقة، فالساحة قد أعدت والجمعان قد ترآيا والقاعدة قد أعلنت.. لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.