ولست أعنى بالتطرف هذا المعنى الذى تبادر إلى ذهنك عزيزى القارئ حين طالعت اللفظ فى عنوان المقال، لم أقصد به تلك التهمة الجاهزة التى لنا عقود نشهد قصرها على المتدينين واستعمالها فى حقهم حصريا، وذلك كفزاعة إعلامية مملة يندر أن يخلو منها عمل درامى أو أدبى فى السنوات الأخيرة.. لكننى ها هنا أقصد عموم اللفظ الذى صار سمة شبه عامة على سائر طوائف المصريين بمتدينيهم وغير المتدينين إلا من رحم الله، خصوصا فى هذه الأيام التى صارت الحافة فيها ملجأ دافئا يأوى إليه المتطرف، متحصنا برفاقه المتطرفين راضيا بهم، ورافضا كل من سواهم، سواءً المنتصفين المائعين الذين تكلمت عنهم فى المقال السابق ممن تحصنوا هم أيضا بالمنتصف واختبأوا فى ميوعة خياراتهم وتذبذب مواقفهم، أو المتطرفين على الحافات الأخرى وما أكثرها هذه الأيام.
أيام لابد أن تكون فى أقصى طرف ما؛ لكى تُقبل بين باقى جموع المتطرفين الذين يعيشون فيها. أيام صار فى كل اختيار أطراف، وفى كل رأى أطراف، وفى كل أزمة أطراف، وفى كل موقف صغر أو كبر أطراف وأطراف. وبغض النظر هل يسوغ هنا الخلاف أو لا يسوغ، وهل هى مسألة من معاقد الولاء والبراء ومواطن المفاصلة العقدية أم أنها أمور اجتهادية تتباين فيها الأنظار وتتفاوت فيها الرؤى، فإن كل ذلك لم يعد مهما. المهم أن تتطرف وأن تنحاز فى كل صغير وكبير. المهم أن تكون ألفاظك أشد وأحد الألفاظ، وخياراتك دوما على أقصى الأطراف، وآراؤك باستمرار فى أبعد نقطة من الحافة المقابلة.. لابد أن تقدس متبوعك تمام التقديس، وأن تطبل لحليفك ومحبوبك، وأن تحتفى بكل مواقفه، وأن تدعم كل قراراته، وأن توقع له صكا دائما بالثقة أو «شيك» على بياض تقر من خلاله بأنه يستحيل أن يخطئ، ولئن بدا يوما لكل عين أنه مخطئ فلتكذب عينك ولترح عقلك ولتقل: أكيد له مأرب ومقصد عظيم لم أستطع بعقلى المسكين إدراكه، لكن يخطئ كالبشر؟! معاذ الله، ولابد كذلك أن تبغض مخالفك بغضا خالصا، لابد أن تشيطنه تماما، ولا تقبل منه أى شىء حتى لو كان منذ أيام حليفا لك وحبيبا وصاحبا، وحتى لو كانت تجمعكما كثير من المشتركات والذكريات والآمال والأحلام. فلقد صار طرفا فى مجتمع الأطراف والتطرف لذا فلابد من هدمه بالكلية.
ومعلوم أن التأثير واقع بالبناء وبالهدم، وأن الهادم يترك أثرا كما يفعل البانى، وإن كان الفارق شاسعا بين الأثرين، ومن البديهيات أن الهدم هين يسير والجميع يجيدونه، حتى الطفل الصغير يمكنه بمجهود بسيط أن يكسر أغلى الأشياء وأنفسها قدرا، لكن البناء أصعب بلا شك وليس الكل يجيده، بل ربما لا يريد أن يجيده. قارن بين المجهود والإبداع اللازم لإقامة صرح أو رفع بنيان أو بذل شىء ينفع الناس، وبين المجهود اللازم لنقض أى من ذلك وهدمه أو تحطيمه، وعندئذ سيتضح لك الفارق جليا، لكن لماذا تتعب نفسك أيها الهادم فى البناء بينما التحطيم أسهل تأثيرا وأكثر صخبا؟، لماذا تنفق جهدك فى تشييد ما ينفع أو إصلاح ما تكسر، بينما تستطيع بسهولة ويسر أن تكسر المزيد والمزيد؟! لماذا توقد شمعة بينما تستطيع ببساطة أن تلعن الظلام؟! هكذا يفكر الهادم.. وهكذا يستسهل الطريق، فإن اخترت يوما أن تؤثر عن طريق البناء وليس عن طريق الهدم.. إن حاولت أن تعدل وتبتعد عن الحافة وتجتنب طريق الغلو والمبالغة. إن حاولت أن تُنصف فتُقَوِّم من تراه مسيئا حين يسىء، وتثنى عليه حين يحسن، ساعيا لأن تدور مع الحق حيث دار، إن حاولت أن تحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون يوما ما بغيضك، والعكس كما أمرك نبيك.. إن حاولت أن تُقَيِّم المخالف بتقييم تراكمى أو كلى.. إن حاولت أن تختلف دون أن تتطرف أو تتخلى عن عفة لسانك وأخلاقيات ملتك. حتى إن فكرت وقدرت فقررت أن تنأى بنفسك عن مستنقعات التراشق وأوحال العنف اللفظى، لتغرس فكرة أو تروى معنى أو تؤصل وتُنَظِّر لقيمة سامية تدوم بعدك وينتفع الخلق بها، وتكون لك رصيدا يوم لا ينفع مال ولا بنون.. فعذرا ليس مسموحا لك بهذا وليس لك مكان فى هذه الأيام..أيام الأطراف..والمتطرفين.
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
على حامد الزعيرى
مقال رائع
جزاك الله دكتور محمد ...........مقال رائع