وسط الأحداث المتلاحقة التى تشهدها مصر يلزم للمرء أن يتوقف قليلاً ليتأمل «أساس الأزمة»، التى أراها تبدأ بسؤالين: مسألة الهوية، ودوافع قطاعات ليست قليلة من الشعب لتبنى الأفكار المتعصبة، ومبررات الإلحاح على التشدد بدلا من التسامح، أما الهوية فكنت أحسب أنها مسألة حسمتها ثورة 1919 حين تعانق الهلال والصليب تحت راية إعلاء الانتماء الوطنى، وفيما قاله مكرم عبيد، وما كتبه أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد ما أنصح بقراءته بإمعان، فالرجل الذى عرض عليه الضباط عام 1952 رئاسة البلاد لكنه رفض، وظل ينادى بتحديد مفهوم للشخصية المصرية، رافضاً تبعية مصر للعالم العربى أو تركيا سياسياً.
ورفض الرجل الحركات السياسية المستندة على أسس دينية، قائلاً: إن الوطن ورباط الأرض فقط يجب أن يكونا أساس كل الجهود السياسية والفكرية، فآلاف السنين من عبق التاريخ المصرى مُزجت مع الحاضر لتكوّن شخصية مصر الفريدة.
كانت مصر فى تلك الأيام ملاذاً آمناً لليهود المضطهدين فى أوروبا، ومناخاً جذب اليونانيين والإيطاليين والأرمن وغيرهم وشكّل هذا التنوع ثراء حضارياً وازدهاراً اقتصادياً، فعرفت مصر «بيزنس المول» فى محلات صيدناوى وعمر أفندى وشملا قبل أن يظهر فى الغرب والشرق. وانتعشت الفنون والآداب وبلغ التسامح مداه، فلماذا تضيق مصر الآن حتى بأبنائها المختلفين سياسياً ودينياً؟، أما «مرض التعصب» فترجع جذوره لمرحلة بعد هزيمة 1967 ويرى فؤاد زكريا فى كتابه «الحقيقة والوهم» أن الانتشار الهائل للحركات المتعصبة الذى بلغ ذروته فى السبعينيات هو تعبير صارخ عن اكتمال الهزيمة وتغلغلها فى نفوس المصريين، ولعل الانتشار الواسع لأنصار هذه الحركات هو أحد مظاهر «تشويش الوعى»، فكان لابد أن ينتهى الأمر بالقاعدة العريضة لاختيار أسهل البدائل التى لا تكلفهم عناء التفكير ومشقّة الحوار، فأمير جماعته وشيخه يوفر لهم إجابات جاهزة مُعلبة ليصل لمرحلة «اليقين الكامل»، التى يعتبرها زكريا أبرز ملامح الانحطاط الحضارى فى تاريخ الأمم.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة