لم يتخلَ أبدا المصريون عن الديمقراطية الحقيقية الكاملة، بعكس ما عنونه مقال جاكسون ديل فى «واشنطن بوست» هذا الأسبوع، فمايزال الشباب المصرى الذى ذكره فى مقاله يناضل من أجل الديمقراطية منذ 2008، ويواصل نضاله وبحثه عن ديمقراطية حقيقية مكتملة الأركان، وليست ديمقراطية مزيفة، فكم عانى هذا الشعب من ديمقراطية مزيفة أراد نظام مبارك تصديرها فقط للخارج، وإيهام المجتمع الدولى بها.
لا أظن أن الكاتب المعروف جاكسون ديل يعتقد أن الديمقراطية هى صندوق انتخابات فقط، يعلم بالتأكيد أن الديمقراطية الحقيقية هى عملية طويلة تنتهى بصندوق الانتخابات، لا تبدأ به. فدعونا نتذكر هتاف الشعب المصرى فى مظاهرات 25 يناير «عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية».. فالشعب المصرى البسيط يدرك جيدا أن محصلة تحقيق هذه المطالب الأربعة، ونتيجة حتمية لها هى الديمقراطية الحقيقية التى يتمناها، وأنه بدون تحقيق هذه المطالب تكون الديمقراطية منقوصة لم يناد بها ولم يطلبها.
لذلك أصر هؤلاء الشباب على الدستور أولا بعد سقوط النظام فى فبراير 2011، ولكن عندما تمت إدارة المرحلة الانتقالية بفشل ذريع من تعديلات دستورية، ثم انتخابات، بعكس ما كان يطالب به، كان لابد أن نتخيل أن هناك ثورة تصحيح ستكون على الأبواب، ولذلك قاوم الشباب المنادى بالديمقراطية مرحلة حكم العسكر لفشلها فى إدراة مرحلة انتقالية تؤدى إلى ديمقراطية حقيقية. وبعد انتهاء مرحلة حكم العسكر، وفشل النخب السياسية والثورية فى التوافق على مرشح ثورى واحد لها، مما اضطر البعض للتصويت لمرسى، منهم من قاطع، ومنهم من أبطل صوته، ومنهم من تقبل النتيجة، وقابل الرئيس للتحاور حول أزمة الدستور من منطلق إعطاء الفرصة له للإصلاح.. فكان لابد أن نتوقع أن يقف هؤلاء الشباب وقفة قادمة لتصحيح ما أجبروا عليه، خاصة بعد أن ضرب مرسى عرض الحائط بكل آرائهم ومشاركتهم، وأصدر بيانا دستوريا لا يعلمه حتى مستشاروه الذين استقال أغلبيتهم فى غضون شهر من هذا الإعلان الدستورى الديكتاتورى.
أما المهزلة الحقيقية- من وجهة نظرى- فهى أن يقرر الشعب سحب ثقته من رئيس لم ينفذ كلمة واحدة من عهوده أو برنامجه الانتخابى، وأسس لحكم ديكتاتورى، وتغول على سلطة القضاء والمحكمة الدستورية، وانشغل بتأسيس دولة فاشية دون الالتفات لصرخات الشعب المطالبة بتحقيق مطالب الثورة، وبعدالة انتقالية، ولذلك طالب الشعب بانتخابات رئاسية مبكرة.. ثم يفاجأ بأن العالم يصف ثورته العظيمة التى شارك بها أكثر من 33 مليون مصرى، فى حدث غير مسبوق فى تاريخ الإنسانية، بأنها انقلاب ضد الديمقراطية. فمن صوّت لمرسى صوّت له بناء على برنامجه، وعهوده بتحقيق مطالب الثورة، فنكث مرسى العهود، وفشل فى تحقيق حتى سطر واحد من برنامجه، ليس هذا فقط، بل إن الشعب رأى أن بلاده على مشارف أن تتحول تدريجيا إلى بؤرة من بؤر الإرهاب، وإلى حكم فاشىّ يأخذها إلى عصور الظلام، وإلى طمس الهوية المصرية، أليس من حق الشعب وقتها أن يسحب ثقته ممن خدعه، ويطالب بانتخابات رئاسية مبكرة؟، أليست إرادة الشعب التى تمركزت فى الصندوق فى 30 يونيو 2012 ثم تحولت إلى توقيعات على استمارات تمرد، ثم فى الشوارع المصرية فى 30 يونيو 2013؟، كيف يتم تجاهل كل ذلك، والتركيز فقط على تدخل الجيش فى لحظة حاسمة لوقف حرب أهلية كانت ستشهدها البلاد إذا لم يفعل ذلك، بل أبى أن يتدخل الجيش بمفرده، فتضمنت كلمته كلمة للأزهر والكنيسة والشباب والقوى السياسية، وأبى أن يحكم بل أقر مع القوى السياسية والمجتمعية خريطة الطريق التى أعدها الشباب قبل 30 يونيو. فى علم العلوم السياسية، الانقلاب العسكرى يعقبه حكم العسكر، أرجو مراجعة أى مرجع فى العلوم السياسية لاستيضاح ذلك.. الجيش لم يتولَ الحكم لساعة واحدة، والحكم انتقل إلى رئيس المحكمة الدستورية وفقا لخارطة الطريق التى أقرتها القوى السياسية قبل نزول الملايين إلى الشارع.. إن المثير للسخرية حقا شعب يتهافت على كل وسائل الإعلام ليقول للعالم: عفوا إنه ليس انقلابا! فهى المرة الأولى التى ينزل فيها شعب ليبرر أنها ثورة وليست انقلابا.. ومن الجدير بالذكر القول بأن الشعوب لم تنزل يوما لتبرير انقلاب، ولكن للإصرار على ثورة شعبية منتصرة.
وأعتقد أن ذكر التجربة البولندية فى مقال مستر ديل ليس له محل من الإعراب، فالدكتور البرادعى، نائب رئيس الجمهورية، لم يكن جزء من النظام السابق، بل كان الرمز والضمير المعارض لهذا النظام الفاشى، كما كان الملهم والمفكر وراء ثورة الشعب فى 25 يناير 2011.
ولكم أيضا فى الولايات المتحده نموذجا فى رئيس بيرو السابق والمنتخب ببيرو ألبرتو فيجمورى فى 1992، والذى حارب الديمقراطية، واستقلال القضاء، وكان موقفكم هو إلغاء الاعتراف به كرئيس أتت به الصناديق، وسار على نهجكم معظم دول أوروبا! فلماذا الكيل بمكيالين فى حالة مصر؟!، هل لأن الإدارة الأمريكية تتباكى على حليف رأت فيه الوسيلة المؤكدة لتحقيق مصالحها فى مصر والمنطقة حتى إذا كان ذلك يتعارض مع طموح الشعب المصرى فى الديمقراطية، وحقوق الإنسان التى تتشدق بها الإدارة الإمريكية دائما، وتدعى مساندتها لحق العرب فى الحصول عليها؟!
وعندما نتحدث عن فكرة الانتظار للانتخابات البرلمانية، فإننا ننتظر انتخابات برلمانية يضع مجلس الشورى الإخوانى قانونها حسب مصلحتهم، ويسمح بالإشراف عليها فقط لمنظمات مصرية يمنحها حق الإشراف مجلس حقوق الإنسان الإخوانى، ويتحكم فى الانتخابات وزراء إخوان فى حكومة إخوانية، هذا إلى جانب عدم تجريم استخدام الشعارات الدينية، وعدم حل جماعة الإخوان المسلمين المجهول تمويلها، خصوصا وقت الانتخابات، ثم ننتظر أن تفوز المعارضة!
أما مئات السجناء السياسيين الذين تحتجزهم الحكومة الحالية بمعزل عن العالم، والذين يدافع عنهم السيد ديل فى مقاله، فهم على وشك أن يواجهوا قضايا هروب من السجن، وقضايا تخابر مع دول أجنبية، بجانب التهم الحالية الخاصة بالتحريض على العنف والقتل، واستمرار الإرهاب، وقتل الجنود الأبرياء فى سيناء، وهى جرائم مسجلة بالصوت والصورة. أما عن القنوات الإعلامية التى تم وقفها، فهى قنوات لا تقدم أى مادة إعلامية غير التحريض على العنف والقتل، وستعود مرة أخرى بعد وجود ميثاق شرف إعلامى يحكم الرسالة الإعلامية للقنوات بلا استثناء، وكل من يتجاوز قواعده سيوضع تحت طائلة القانون.. ومن العجيب جدا أن يتناول السيد ديل وغيره من الصحفيين ووسائل الإعلام الغربية القتلى من جانب الجماعات الإسلامية المتطرفة بقيادة الإخوان المسلمين الذين فى كل الحالات يكون سقوطهم نتيجة لرد الشرطة أو الجيش لردع اعتدائهم على مدنيين عزل، ولا يتناولون اعتداءاتهم الوحشية وقتلهم وتعذيبهم البربرى للمواطنين والمتظاهريين السلميين والأطفال، والتى تحدث يوميا، والتى هى أيضا مسجلة بالعديد من الفيديوهات.. الشعب المصرى مسالم، وجماعة الإخوان المسلمين وفروعها من الجماعات الإسلامية، هم المسلحون، وهم الذين يستبيحون القتل والعنف.. وأظن أن الولايات المتحدة والشعب الأمريكى لم ينس ذلك بعد، فالعجب كل العجب من هذه المغالطات، ومن الدفاع المستميت فى وسائل إعلامكم الآن عن هؤلاء المتشددين أمثال «بن لادن» الذى أقامت الإدارة الأمريكية حروبا ضدهم، مات فيها الكثير من الشعب الأمريكى من قبل!
ولـ«الواشنطن بوست» أحب أن أقول إن ما حدث سيبقى فى عقول وقلوب المصريين هو التعبير الحقيقى والصحيح عن آمال جيل خرج ليناضل ضد الديكتاتورية والفساد، ولم ولن يهدأ إلا بعد أن أزاح حكما فاشلا فاشيا، ويضع بيده خريطة طريق من أجل مستقبل أفضل، ولن يغير من واقع نعيشه، ومستقبل نتطلع إليه، ونعمل بإيمان من أجله كونكم تتحيزون للإخوان تارة، أو تتخلون قليلا عن الحيادية والمهنية فى تغطية وجهات نظر مختلفة تارة أخرى، أو حتى كونكم تطلقون عليه ثورة أو موجة ثورية أو انقلابا.. دامت مصر حرة أبية مستقلة.
Egyptians are Taking Hold of True Democracy