أجل هى ليلة قلت إنها ستأخذنى بعيدًا عن الهموم، دعيت إلى ندوة يشترك معى فيها الدكتور رشاد عبداللطيف، أستاذ الدراسات الاجتماعية ونائب رئيس جامعة حلوان السابق، واللواء السابق أيضا فى الجيش المصرى محمود منصور، وفرقة موسيقية من الشباب هى فرقة «حبايبنا»، إذن هى ليلة يمتزج فيها سحر الموسيقى والغناء بالسياسة، لذلك روضت نفسى على استقبال الفن أكثر من السياسة، من أجل أن أتنفس شيئا مبهجا وسط ما يجرى فى مصر من موت تجاوزت فيه عقول جماعة الإخوان المسلمين كل ما عهدناه من عقول المسلمين عبر التاريخ، معركة فى كل مكان أساسها الكذب الأكبر الذى أقام فوق حياتنا منذ تولى محمد مرسى حكم البلاد، والآن بعد أن عزل محمد مرسى يستمر الكذب الذى لن أدخل فى تفاصيله التى تعرفونها طول الليل والنهار، لكن أبشعها القول بأن الملايين التى خرجت لعزله خرجت على الشرعية، وكأن هذه الملايين لم تكن مصدر الشرعية فى الأصل. المهم ذهبت إلى القصر الكائن فى منطقة الخليفة أتذكر على غير عادتى حين ذهبت إليه من قبل فى الأعوام السابقة، أتذكر مصر القديمة وأحياءها، وليالى رائعة أمضيتها زمان فى السبعينيات والثمانينيات من القرن السابق وسط مبانيها الأثرية الإسلامية، مساجدها وقصورها وأسبلتها، حين كنت شابا وأعمل فى الثقافة الجماهيرية بوزارة الثقافة ونحيى فى رمضان من كل عام أمسيات رائعة للفنون والشعر والمسرح والموسيقى، ورغم أن ذلك استمر ويستمر إلى الآن فإننى أنا الذى انشغلت عنه بالحياة، وبدا أنى تشبعت من الفرجة والمعرفة، والحقيقة أنى تعبت ولم أعد قادرا على السهر بين الزحام الذى زاد فى البلاد، لكنى ذهبت هذه المرة متحمسا بعد ليال ونهارات صاخبة ضاعت كلها فى المشاركة والكتابة من أجل الديمقراطية الحقيقية والانتهاء من غمة حكم الإخوان الذى خسر فرصته العظمى ولن تقوم له قائمة بعد اليوم، ليس لأن الدولة قادرة عليه، لكن لأن الشعب اكتشف الكذبة الكبرى وخرج ينهيها. ذهبت مبكرا ساعة إلى القصر الذى أنشأه الأمير سيف الدين طاز أحد أمراء دولة المماليك البحرية البارزين فى القرن الرابع عشر الميلادى، أى منذ أكثر من ستمائة عام، وظل القصر صامدا مثل غيره من الآثار الإسلامية، وفى الربع الأخير من القرن التاسع عشر قررت حكومة الخديوى إسماعيل تحويله لمدرسة بنات بطلب من على باشا مبارك، ثم بعد عشرات السنين أخلته وزارة التربية والتعليم، إذ بدأت تظهر عليه علامات الانهيار وتعرض لإهمال شديد، وتساقط الكثير من جدرانه حتى قامت وزارة الثقافة فى عهد فاروق حسنى بعد زلزال عام 1992 بترميمه بشكل أشبه بالمعجزة ليعود إلى حالته العظيمة وجماله القديم وصار بعدها مركزا للثقافة والفنون، لقد حضرت افتتاحه منذ أكثر من عشر سنوات وأبهر القصر بعد الترميم الموجودين ولا يزال، وصرت ألبى كل دعوة إليه أرتاح إلى زمان قديم بقى منه كل جميل من الآثار، فى هذه المرة وصلت مبكرا ساعة كاملة، تعمدت ذلك لأمشى حول القصر فى الشوارع والأزقة أشاهد ما بقى من هذا الزمن، فرأيت كيف زحف الإهمال على كل شىء قديم، وأكثر ما آلمنى مشهد القذارة على نواصى الشوارع، ومن بينها لمحت اسم شارع على مبارك، وتحت اللافتة على الأرض ما تشاء من قذارة لكن بينها امرأة عجوز فقيرة نائمة، على مبارك رائد التعليم وتعليم النساء تحته هذا الهم وهذا الألم، ليس جديدا هذا فى مصر، وأنا لا ألوم أحدا لأنى زهقت، لكن هكذا صرت أمشى وكلما فزعت قلت عادى يا مصر! عادى يامصر! حتى حين انفجر أبناؤك فى ثورة عظيمة حاصرتها الأفاعى القديمة لتعود إلى الوراء، انتهيت من الجولة المؤلمة ودخلت إلى القصر وبدأت الندوة التى أدارتها الدكتورة ناهد عبدالحميد من صندوق التنمية الثقافية، لم نقل جديدا عن الإخوان وما يحدث فى مصر الآن، لكننا استمعنا مع الجمهور إلى الفرقة الجميلة «حبايبنا» شباب يمتلك الصوت الجميل والرغبة والثقافة، شيرين عبده، وباسم وديع، وفاطمة عادل، وصليب فوزى، ومحمد إسماعيل، وأمير عزت «عازفا للإيقاع» وقائد الفرقة ماجد سليمان عازف العود، كانت الليلة لأحمد فؤاد نجم وفؤاد قاعود وطبعا الشيخ إمام ومن جيل ثورة يناير البديع مصطفى إبراهيم، وكانت فرصة أعلق على بعض الأغانى القديمة وتاريخها ومناسبتها فى السبعينيات، ورغم أنى كنت أبعد بالتعليق عن هم معاصر إلى هم بعيد إلا أن ذلك وجد رغبة من الفنانين الشباب فى السماع، لكن رغبتنا ورغبة الجمهور كانت أكبر طبعا فى سماع الأغانى التى لا تبلى، والتى أتمنى أن تصبح تراثا وتنتصر الثورة، لكن ما يحاصر الثورة يجعلنا نلهث خلفها نقاوم بها كل عدوان على الوطن والمستقبل، تحدثت بالتداعى عن ما فعلته ثورة يناير من إطلاق طاقات الشباب فى الفن، الجرافيتى فى الفنون التشكيلية كاحتجاج وثورة وشاهد على الجدران فى كل البلاد، وعن فن الكاريكاتير وعن الأفلام القصيرة تسجيلية وروائية وكيف كان ميدان التحرير متحفا للفنون أيام يناير العظيمة التى جعلته أيقونة مقدسة بين السماء والأرض، انتهت الليلة وقد ملأ الغناء فضاء المكان ومشى معى فى الطريق حتى عدت إلى بيتى، بعد أن تحدثنا جميعا عن طرق العودة، الذاهبون إلى مصر الجديدة يسألون عن الطرق المغلقة والمفتوحة وهل جد جديد ونحن فى الندوة والذاهبون إلى المعادى يسألون، والذاهبون إلى الهرم يسألون هل حدث جديد يعطل الطرق؟ لم أترك نفسى لأى حديث رغم ما وصلنى على الموبايل من أخبار لا تسر، وكنت أغلقته ثم فتحته بعد الندوة، اعتبرت أن شئيا ليس موجودا فى مصر إلا صوت الغناء وصوت هؤلاء الفنانين الشبان، ليس صعبا أبدا أن تفعل ذلك ولو ليلة، أجل هى ليلة، لكن فى آخر الليل كانت الأخبار عن القبض على عصام سلطان وأبو العلا ماضى، هكذا بهذه السهولة؟ هذا ما جرى، وطبعا حدث مثل هذا لابد يعيدك إلى ما أردت أن تنساه ولو ليلة واحدة، تذكرت الاعتصام العبثى فى رابعة العدوية، وتذكرت من بينه مئات الأطفال الذين يريد قادة الإخوان أن يجعلوهم شهداء، تصور، وألبسوهم الأكفان البيضاء.، متى حدث ذلك فى تاريخ الإسلام، متى تحصن الرسول الكريم بالنساء والأطفال، متى تحصن المسلمون بالنساء والأطفال؟ أى نوع من البشر قادة الإخوان، تمنيت على الله ألا يتورط أحد فى فض الاعتصام بالقوة كما يريد قادة الإخوان، ألا يتورط أحد فى قتل الأطفال والنساء الذين سيضعهم الإخوان فى المقدمة كعادتهم، تمنيت وما زلت أتمنى، لأنى أعرف أن قادة الإخوان لن يعودوا أبدا إلى صوت العقل ولا يهمهم أبدا موت الأطفال والنساء، لقد كذبوا عليهم واعتبروهم شهداء من الآن، كما كذبوا على الرجال ووعدوهم بالحور العين، باعتبار أن الشعب المصرى الذى تمرد على حكمهم كافر وغاز لمصر ومواجهته وقتله، أو الاستشهاد أمامه، طريق الجنة حيث الحور العين.