فى الواقع لا يعود الزمن إلى الوراء وحده الفن يعيد الزمان إلى الوراء وعندما يكون الفن عميقا وراقيا يؤسس حالة الدهشة والمتعة رغم أنه يقدم خيبات وانكسارات. مسلسل "ذات" أحد أهم تجليات الفن الراقى الحقيقى فهو يقدم بروعة مبهرة الامتزاج ما بين الدراما وتوثيق المراحل التاريخية. قدم المسلسل تاريخ مصر ببساطة وعمق من خلال قصة حياة مواطنة عادية ورصد أحوال طبقة الموظفين فى مصر..وكيف حدث الانهيار الاجتماعى ووصولا لحالة "الدهولة" للمرأة الموظفة التى تعمل كل شىء فى مكان العمل إلا العمل والجمعيات حيث الحياة بالتقسيط وحيث يمضى العمر فى تسديد الديون وفى شكل الملابس فى الخمسينيات والستينيات وجزء من السبعينيات حيث كان الرقى والأناقة سلوك وصورة ومع دخول غطاء الرأس الذى لجأت إليه البطلة لأنها لا تمتلك ثمن الذهاب إلى الكوافير فوضعته ولم تخلعه وتطور هذا الشكل ليبدو فى أشكال مختلفة ويطرح نفسه باعتباره حجابا وإسلاما بينما كان السبب اقتصاديا فى المقام الأول.
رصد المسلسل الطيبة والاعتراف بالجميل لدى المصريين بالنسبة للدول العربية التى ذهبوا إليها بحثا عن تحسين ظروفهم الاقتصادية وانتقالهم من طبقة اجتماعية إلى أخرى فعندما حدث غزو الكويت كان بطل المسلسل يريد أن يعود للكويت التى عاش فيها فترة وهذا شعور حقيقى فالعديد من المصريين يعتبرون الكويت والسعودية بلدهم الأول مكرر. مريم ناعوم وكاملة أبو ذكرى وورائهما إبداع صنع الله إبراهيم قدما عملا متفردا. نيللى كريم وكأنها تمثل لأول مرة ولدت بطلة فى هذا المسلسل فهى تقدم نموذجا للمرأة المصرية موجود بكثرة حيث السذاجة والسلبية والتلقائية لكنها حكيمة أحيانا وأم وزوجة لا تتوقف عن طموح تحسين الحياة.الشىء الوحيد الذى تضع له خطة هو الحصول على شىء أفضل فى بيتها فتضع خطة الحصول على غسالة حيث إعلانات شيرين رضا الشهيرة فى تلك الفترة وخطتها الثانية تجديد الحمام والخطة الثالثة المطبخ.
نساء كثيرات مثل ذات لجأن إلى ماكينة الخياطة "سنجر" فقد كانت أحدى وسائل تحسين الحياة..المرأة العربية تؤكد قدراتها على إدارة الملف الاقتصادى فى حياتها والبحث عن موارد أخرى. "انتصار" حالة متوهجة استثنائية فى كل عمل قدمت المرحلة الأولى بضحكة عيونها المميزة وفى المراحل الأخرى كانت العين وكأنها مكسورة فكانت أقرب إلى المغلقة.. إنها غول تمثيل رائع. باسم سمرة قدم أهم أدواره أداؤه لـ"عبده أوف كورس" كان درسا فى فهم الشخصية والإمساك بها. هانى عادل هو نموذج لكل ثائر عن حق، رومانسى ونقى فى ثوريته له قضية وهدف ولكنه لم يحصل على نصيبه من الحياة وهناك آلاف مثله فى المبدعين والثوار. الحزن والفرح والتأصيل لما نحن فيه الآن وفى موسم البحث عن خارطة طريق تصبح الذاكرة مشروبا مهما، يجب أن نتوقف أمامه وقدمه لنا مسلسل ذات بطعم المرارة كثيرا وبطعم الفرح قليلا ولكنه مدهش وممتع.