فشلت الأصولية العلمانية فى تركيا، حين حاول كمال أتاتورك أن يستأصل مظاهر الإسلام فى بلد الخلافة، واستخدم الرجل القمع والسجن والتنكيل وكذلك الإعلام، وإشاعة أجواء من الخوف، كما استخدم الحظر السياسى أيضا، وذلك فى ظل سياق علمانى أصولى لم تتحمله تركيا، ولا الإنسان وتحولت البلاد نحو صيغة علمانية أكثر تسامحا واعتدالا مع تورجوت أوزال ثم مع عبدالله جول. وتذكرنى الصيحات غير المسؤولة على الجانب العلمانى تجاه الإسلام والهوية الإسلامية بتعبير ذات طابع أصولى، ولكنه علمانى، فالأصولية ليست فقط على الجانب الإسلامى، ولكنها على الجانب العلمانى أيضا، حيث وجدنا عضوا فى لجنة الخمسين يعمل فى الفن يتحرش بالإسلام وبالهوية العربية الإسلامية لمصر، ويقول بالفم المليان بلا أدنى خجل أو حياء، علينا أن نحذف من مسودة الدستور النص على الهوية العربية الإسلامية لمصر، لأن ذلك يعد تمييزا دينيا، ولا أعرف تمييزا دينيا ضد من، فقصة التمييز الدينى تكون فى علاقات الأديان المختلفة داخل الأمة الواحدة، ولكنها لا تكون كذلك إذا عرفت نفسى فى مواجهة العالم الخارجى والآخر، فنحن عرب مسلمون مصريون.
وفى ظل المشاعر المتأججة للتيارات المتخاصمة مع الإخوان فى السياسة والإعلام وفى الفضاء العام، نجد أصواتا تتحدث عن ضرورة إقصاء التيار الإسلامى كله من المشهد، بما فى ذلك حزب النور الذى يعد شريكا فى المرحلة الجديدة لما بعد 30 يونيو، لكن تلك الأصوات الاستئصالية ذات الطابع العلمانى الأصولى العدمى، لا تريد أن ترى أحدا من الإسلاميين فى المشهد، وهذا يعنى عودتنا لفاشية جديدة بوجه مدنى، وبلباس أمريكى حديث وبذقون لامعة، ولكنها تستبطن وتستعلن بدون رمشة طرف، أو اعتبار للمسؤولية الأخلاقية تجاه مجتمعها وأمنه القومى وجها أصوليا متطرفا ولكنه ذات طابع علمانى.
أعتقد أن دخول وزارة الأوقاف على الخط فى هذه القصة للحديث عن السيطرة على المنابر، وتأميم الخطاب الدينى الإسلامى لمصلحة الموجة السياسية الجديدة ضد الإخوان، والتى تحرم قوى مجتمعية وسياسية دينية من خارج الأزهر من المنابر، هى نوع من تلك الأصولية العلمانية، ولكن دعنا نقول العلمانية الأصولية الاستظهارية – أى التى دخلت فى القصة من منطلق المزايدة السياسية، وليس من منطلق التخطيط الحقيقى لخطاب إسلامى وسطى، يكون بالتعاون مع الجهات الإسلامية الأخرى العاملة فى نفس المجال، مثل التيارات السلفية، وأنصار السنة والجمعية الشرعية وغيرها. من بين تلك الأصوات المتحدثون فى اللجنة التأسيسية عن حظر الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية، فالمحكمة الإدارية للأحزاب انتهت إلى أن معنى كلمة «دينى» الموجودة فى قانون مباشرة الحقوق السياسية للحزب، يعنى أن يكون مغلقا مقصورا على أبناء دين معين المسلمون مثلا دون أن يدخل فيه غير المسلمين، أما إذا كان هناك حزب سياسى ذو مرجعية إسلامية فإن أحدا لا يمكنه أن يمنعه من ممارسة السياسة، ولا يمكن لنا أن نبنى ديمقراطية بساق واحدة هى التيار الليبرالى والمدنى والعلمانى دون الساق الأخرى الإسلامية، وإلا ستكون ديمقراطية عرجاء. الأصولية العلمانية فى تقديرى خطر على المسار الانتقالى لمصر وخطر على أمنها القومى، ويبدو أن جلبة منصة رابعة والنهضة ليست قاصرة على الإسلاميين وحدهم، ولكن لكل قوم منصتهم وجلبتهم، وكأننا فى سيرك أو فى حلبة ألعاب عبثية، يفرح المنتصر كيدا فى المهزوم، وكل ذلك على جثة الوطن. ومن ثم فإن الوجه الأصولى ليس فقط فى خطابه ومنصته وإعلامه ونخبته المبهتجين بذهاب الإخوان، دون قدرة حقيقية على خلق بديل أو مسار مختلف يشعر المواطنين بالأمل فى التغيير، وبأننا قمنا بثورة هى ثورة 25 يناير، هى مرجعيتنا جميعا فى مساراتنا نحو بناء المستقبل، الوجه الأصولى له طابع قمعى، وأمنى فى مواجهة حق الناس فى التعبير والرأى والفعل السياسى والثورى، وهو ما يفتح الباب واسعا ربما لموجات ثورية جديدة.