«يا صبر أيوب»، كم مرة ضبطت نفسك متلبسا بنطق هذه العبارة؟ كم مرة تمردت واعترضت وأصابك اليأس، فربت أحدهم على كتفك، وقال لك: الصبر مفتاح الفرج، يا عم إنت هتروح فين؟ هو إنت ولا أيوب؟
جولة واحدة فى مستشفيات وزارة الصحة والسكان، أو فى الوحدات الصحية المتناثرة بطول مصر وعرضها، كفيلة بأن تجعلك تدرك أن أيوب حى يرزق، وأن مصر بيئة مناسبة تماما لخلق مئات الآلاف ممن يمكنك أن تضرب بهم المثل فى الصبر.
معجزة أيوب الخالدة تتكرر لدينا يوميا لكن دون أن تجد من يسجلها فى كتاب المعجزات، المصريون هضموا قصة أيوب جيدا، ويطبقونها بحذافيرها، الفقر والمرض وموت الأحباء ليست ابتلاءات عارضة فى حياة المصريين، بل هى طقوس يومية، لكن الفرق بين قصة أيوب وقصص المصريين أن الأخيرة لا تنتهى النهاية السعيدة التى تحققت للأولى، فالصبر مفتاج الفرج نعم، لكن النهايات السعيدة أمر آخر.
المصريون خلدوا أيوب فى حكايات وأغنيات وأمثال شعبية.. المصريون يحبون أيوب، ويعشقون ناعسة، ناعسة موجودة لدينا لكنها لا تظهر إلا وقت الشدة، موجودة لكنها عملة نادرة، على أيوب أن يبحث عنها طويلا، ولا يرضى إلا بها.
أيوب واحد، لكن له قصتين: القصة الدينية المذكورة فى القرآن، والقصة الشعبية التى أضاف لها وأبدعها التراث الشعبى المصر، الأولى تدور حول أيوب وحده غالبا، حيث كان عليه السلام كما تذكر الكتب الدينية – عبداً تقياً شاكراً، كثير المال متمتعا بالصحة والأولاد، ثم ابتلاه الله بعد ذلك بالضر الشديد، فذهب ماله ومات أولاده، فصبر على ذلك صبرا جميلا، ثم ابتلاه الله بأنواع من الأمراض الجسيمة فى بدنه حتى قيل: إنه لم يبق من جسده سليماً إلا قلبه ولسانه، وطال مرضه ثمانى عشرة سنة، دعا الله بعدها: رب إنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين، ثم أوحى الله تعالى إليه: اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، فضرب برجله الأرض، فأنبع الله له عينين، شرب من إحداهما، واغتسل من الأخرى فذهب عنه ما كان يجده من المرض. وحتى يبر أيوب بيمينه ولا يحنث حين أقسم على زوجته أن يضربها مائة جلدة، أمره الله أن يأخذ حزمة من الحشيش أو الريحان أو ما أشبه ذلك فيه مائة قضيب فيضرب بها زوجته ضربة واحدة وبذلك لا يحنث فى يمينه، رحمة بها لحسن خدمتها إياه وشفقتها عليه أثناء مرضه.
أيوب المصرى، ليس شخصية أخرى، لكنه زاوية أخرى للنظر إلى القصة، فإذا كان البطل فى القصة القرآنية هو الرجل؛ النبى أيوب، فإن البطل فى القصة الفلكولورية المصرية هى ناعسة زوجته، وقد ذكرت الحكاية الفلكولورية تفاصيل الحياة الجميلة التى كان يحياها أيوب المصرى قبل مرضه، بما امتلكه من ضياع وبساتين ومال وعبيد وأعوان، وأعطت الرواية لناعسة هذا الاسم لأنها صاحبة عيون جميلة ناعسة، وأعطت لها شعرا طويلا رائعا كان مثار حسد كل نساء البلدة، وحين تصل الرواية إلى ذروة الدراما القرآنية فى قصة أيوب بمرضه وضياع دوره وجاهه وأعوانه، مع ثباته على إيمانه وصبره، ينتقل الراوى الشعبى إلى ذروة درامية أخرى، حين تحمله زوجته الوفية فى قفة على ظهرها وتتنقل به طلبا للعلاج والتداوى، ولا تتركه مثل بقية من كانوا عنده وتركوه.
وبعد أن أعيت السبل ناعسة لقضاء نفقات علاج جسد زوجها المقروح، بدأت تسأل الناس المساعدة، وهنا نصل إلى ذروة أعلى فى الدراما الشعبية، حين تطلب نساء القرية من ناعسة أن تبيع شعرها لهن مقابل ما تحتاجه من نقود لعلاج زوجها، وبالفعل تبيع ناعسة شعرها لتأتى بالعلاج، فماذا تستفيد ناعسة من أجمل شعور الأرض وزوجها كومة من اللحم والعظام فى قفة، مريضا مقروحا ثابتا على إيمانه؟
تنتهى القصة ولا تنتهى المأساة، ناعسة باعت شعرها لتأكل وتعالج زوجها، ومازال لدينا الآلاف من ناعسة تبيع شعرها، وشرفها، وكليتها، وكبدها، وجسدها لتأكل أو لتطعم زوجها المريض، أو أطفالها الرضع.
عزيزى المواطن المصرى العفيف المحترم .. رجاء لا تشتر شعر ناعسة إذا جاءت تعرضه عليك، ما دمت تملك ما تعطيه لها امنحه دون مقابل من جسدها الحى، لا تشتر كبد ناعسة، أو كلية ناعسة، أو شرف ناعسة، يكفيها هى وزوجها ما هم فيه.