بعدما تناولنا فى الأيام الماضية بعض ملامح جناية كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» على مستقبل الثقافة فى مصر، فيؤسفنى أن أقول، إن طه حسين لم يراع شروط البحث العلمى فى بحثه عن هوية مصر الثقافية، وإنه آمن بالنتيجة قبل أن ينظر فى الأسباب، ولهذا جاءت محاولات إلصاقه لمصر فى العالم الغربى محاولات مفتعلة أشبه بالتبرير لا بالتحليل، فقد انتقى الكثير من الوقائع ليدلل على وجهة نظره متجاهلا غيرها مع أن «غيرها» أقرب وأقوى، فمثلا حينما قارن بين الاحتلالين الفارسى واليونانى، مؤكدا أن مصر لفظت الفرس وانسجمت مع اليونان تجاهل أن مصر فى انسجمت مع الفتح العربى، وصارت أهم حاضرة فى حواضر الخلافة، كما أن مصر «الحديثة» لفظت الاحتلال الفرنسى وطردته «شر طردة» كما أنها ناضلت من اليوم الأول ضد الاحتلال الإنجليزى ولم تهدأ يوما ولم تستكن منذ وصول البوارج الحربية الإنجليزية إلى سواحل مصر وحتى وقت كتابة «العميد» لكتابه «العمدة» فكيف بعد كل هذا يدعى أن المزاج المصرى مزاج «أوربى»؟
الغريب أن طه حسين، ذلك المفكر الكبير صاحب العقلية الجبارة كان يعرف أنه «لا نهضة بلا إحياء» وفى ذلك يقول: «لا أحب أن نفكر فى مستقبل الثقافة فى مصر إلا على ضوء ماضيها البعيد، وحاضرها القريب» لكنه مع ذلك استبعد عصورا أحدث من العصر اليونانى مثل العصر الإسلامى.. كما استبعد عصورا أقدم من العصر اليونانى مثل العصر الفرعونى، مدعيا أن مصر تأثرت بالعقل اليونانى فحسب، رغم أن العكس هو الصحيح، فقد كانت مصر قديما أهم حواضر العالم الثقافية والعلمية، وفيها تعلم فيثاغورس وأرسطو وأفلاطون، فكانوا سفراء للعلم «المصري» فى اليونان، وهم من هم فى الثقافة اليونانية ولتأثيرهم العقلى أكبر الأثر فى التاريخ اليونانى.
قد يتبادر الآن إلى ذهنك سؤال هو: هل يجوز أن يتجاهل كاتب كبير مثل «العميد» لآثار الحضارة الإسلامية فى العقل المصرى وهل يجرؤ أحد على هذا؟ وللحق فقد ذكاء طه حسين لم يكن ليسمح له بهذا، لكنه «للأسف» ساق منطقا مغلوطا أيضا فى تبرير نظريته التى يفترض فيها أن مصر أوربية الهوى وأن مستقبل الثقافة فى مصر مرهون بمدى انتمائها إلى شعوب البحر المتوسط، وانظر معى كيف احتال عميد الأدب العربى على مأزق إنكاره لأثر الحضارة الإسلامية فى العقل المصرى، فدلل على عدم تأثر مصر بالشرق الإسلامى بعد الفتح العربى بعدم تأثر أوربا بالشرق المسيحى، بعد دخولها إلى المسيحية! إذ يقول: «وجاء الإسلام وانتشر فى أقطار الأرض وتلقته مصر لقاء حسنا، وأسرعت إليه إسراعا شديدا، فاتخذته لها دينا واتخذت لغته العربية لها لغة، فهل أخرجها ذلك عن عقليتها الأولى، وهل جعلها ذلك أمة شرقية بالمعنى الذى يفهم من هذه الكلمة الآن! كلا لأن المسيحية التى ظهرت فى الشرق وغمرت أوربا واستأثرت بها دون غيرها من الديانات فلم تصبح أوربا شرقية ولم تتغير طبيعة العقل الأوربى»، ولست أعرف كيف يدلل «العميد» على عدم شرقية مصر بعدم شرقية أوربا دون أن يدرك أن منطقه يحمل الكثير من التناقض، متناسيا أن أوربا «أوربت المسيحية» ونقلتها إلى لغتها، بينما أسلمت مصر واعتمدت اللغة العربية لغتها الرسمية، ومتناسيا أيضا ما للقرب «المكانى» من أكبر الأثر فى تشرب مصر للحضارة الإسلامية، فطبيعى أن تستقل أوربا عن المفهوم الشرقى للمسيحية، وذلك لبعد المكان والبيئات للدرجة التى جعلت أوربا تتخذ مذهبا مختلفا عن المذهب الشرقى وتحارب الشرق أملا فى نشره، بينما ظلت مصر فى ظل الإسلام دائمة الصلة مع التيار الإسلامى العام، ولم تخالفه حتى بعد أن تولى زمامها الفاطميون، وكان أولى بعميد الأدب العربى أن ينظر فى المجتمع المصرى ويلحظ ما به من آثار مصرية إسلامية ليعرف أن مصر ليست أوربا، وأنه لا يجوز له أن يدعى أن الإسلام لم يغير فى العقل المصرى، مستدلا على هذا بأن المسيحية لم تؤثر فى أوربا، ومتجاهلا ما فى الوضعين من اختلاف وما بين الأمم من فروق.
نكمل غدا..
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
مصرى
رغم ان كلام كاتب المقال منطقى وموضوعى ألا أن الكثير من أفكار واراء طه حسين كانت صائبة
عدد الردود 0
بواسطة:
مهندس مدحت عاطف
أستاذ وائل