قابلته على المقهى كالعادة حين تهفو روحى إليه، ما إن رآنى حتى هتف ضاحكا وكومة الصحف القديمة أمامه على المنضدة:
- إياك تقول لى إنك اشتقت لى لأنى أنا الذى اشتقت لك.
صافحته ضاحكا، بل أخذته فى حضنى فوجدته حين وقف ارتعشت ساقاه، كيف حقا أنسى أنه اقترب من الثمانين. لا بد أن ذلك سيحدث معى يوما، إذا عشت. قلت: فى الحقيقة هفت روحى إليك بالفعل لأقول لك: إنى أحيانا أرى كل شىء حولى أبيض، فهل هذا لأن ما حولى أكبر من فهمه أم لضعف فى قدرتى على الاستيعاب.
قال ضاحكا:
- هذا أمر تحدده أنت، ما رأيك أن تشرب «ليمونا» بالنعناع؟
- لماذا؟
- لأنه منذ ظهر عادل إمام فى رمضان الماضى يطلب ليمونا بالنعناع فى كل مكان يدخل إليه ومصر كلها تفعل مثله.
- واضح أنه عجب مصر كلها، هناك أزمة نعناع فى البلد.
ضحكنا من جديد.
قال: أزمة الليمون من أيام انتخاب مرسى طبعا.
وضحك، لكنى لم أضحك، نظر إلىّ مستريبا. قلت: لا تنس أنى كنت من المبطلين صوتهم، لم أعصر الليمون ولم أشربه!
- إذن ماذا يقلقك.. أنت لا تشتاق لى إلا عند القلق؟
- أنا لا أحب أن أهاجم الإعلام، هناك دائما إعلام جيد وإعلام ردئ، لكن كلما فتحت صحيفة أو دخلت على موقع بالإنترنت وجدت حديثا عن حزب النور.. حزب النور يرفض.. حزب النور يشترط.. حزب النور يعترض.. إلخ ما يقال عن عمل لجنة الدستور ولا أحد يفكر كم صوتا لحزب النور فى لجنة الخمسين؟!
- أظنه صوتا واحدا.. وربما تعاطف معه صوت أو اثنان أو ثلاثة مثلا.
- طيب.. فى النهاية التصويت سيكون بنسبة %75 من الموافقين، إذن يمكن أن يرحموا أهالينا من هذا كله ويتركوا الأمر للتصويت، إنهم يناقشون الأمور كما لو أن حزب النور يمتلك نصف أصوات اللجنة أو كأن اللجنة منقسمة بين حزب النور وسائر القوى الوطنية، أليس فى هذا نوع من الغش؟
قال مبتسما:
- هذا هو التضليل الإعلامى بعينه يا عزيزى، وهذا التضليل يجد لنفسه للأسف فى أدبيات لجنة الدستور فرصة أيضا.
- كيف؟
- كثيرون من أعضاء اللجنة يقولون ويعلنون أنهم يهتمون بالتوافق فيما بينهم، وأنت كتبت أكثر من مرة أن أى ممثل لجماعة أو حزب دخل لجنة الدستور عليه أن يعرف أنه منذ لحظة دخوله صار ممثلا للأمة وليس جماعته ولا حزبه. لكن لا حياة لمن تنادى، للأسف أسوأ اختراع بعد ثورة يناير حتى الآن هو كلمة توافق هذه، خاصة فيما يخص الدستور، المفروض أنه كما قلت أنت وأى عاقل إن التوافق منذ لحظة دخول اللجنة، بمعنى أن المبادئ الدستورية للأمة كلها، لكن هل هذا هو ما جعلك لن ترسل رسالة إلى اللجنة اليوم كما تعودت فى الأسابيع السابقة.
- ربما.. لكن أيضا.
وسكت.. لم أكمل. كان الجرسون قد وضع أمامى كوب الليمون بالنعناع، رشفت رشفة، وهززت رأسى. قال:
- صارحنى بحق. ماذا يضايقك اليوم؟ آه.. تذكرت.. لقد قرأت لك على تويتر يوما مع بداية الأزمة مع الإخوان المسلمين أن ما يفعله الإخوان المسلمون من مقاومة لا معنى لها سيكون سببا فى عودة الدولة القديمة.. أذكر جملتك تماما.. حسنى مبارك انتقم من الثورة فسلم البلاد للمجلس العسكرى السابق، المجلس العسكرى السابق انتقم من الثورة فسلم البلاد للإخوان.. الإخوان الآن ينتقمون من الثورة وسيسلمون البلاد إلى الدولة القديمة كلها.. هل ما زلت ترى الأمور كذلك.. هل هذا ما يضايقك؟
ضحكت بقوة، قلت:
- رغم أنى كتبت ذلك فإن ثقتى كبيرة أن أحدا لن يقضى على الثورة بسهولة مهما فكر فى ذلك.
- طيب هل تخشى مرشحا عسكريا للرئاسة مثلا؟.
- أنا مع حق الجميع فى الانتخابات والتصويت.. هذا لا يضايقنى، ونحن أحرار فى الاختيار، المهم ألا نجد أنفسنا فى انتخابات الرئاسة المقبلة بين اثنين أحلاهما مر ويعود الثوار لعصر الليمون مرة أخرى، لكن دع ذلك الآن، ما يضايقنى حقيقة هو كيف استطاع الإخوان المسلمون مسح عقول أعضائهم إلى هذه الدرجة، لقد قلت دائما إنه لا فرق بين القيادات والشباب، لكن لم أكن أتصور أنه إلى هذا الحد. شباب كثير فقد حياته وشباب سيفقد مستقبله من أجل حلم كاذب، هذه جماعة استطاعت أن تجعل الوهم حقيقة فى رؤوس أعضائها وشغلت الأمة المصرية ثمانين سنة بهذا الوهم، صراعا معه أو اتفاقا أو ابتعادا عنه ثم ما إن تملكوا الحكم سنة حتى رأى الجميع الوهم واضحا إلا أعضاء الجماعة، لا يزالون يرونه حقيقة، فهم المسلمون وهم الذين سيقيمون الإسلام على الأرض وكل ما خلا ذلك باطل وقبض ريح.. صدقنى أعرف قوة الجماعة على مسح عقول أعضائها لكن لم أكن أتصور أنه إلى هذا الحد.
قال وهو يربت على كتفى:
- على أى حال هناك بعض العقلاء يدعونهم للهدوء الآن.
ضحكت:
- قل هناك بعض العقلاء يدعونهم لتوفير طاقتهم.
هتف:
- أنت متشائم إلى هذا الحد؟
- بالعكس. أنا أعرف أنه لا رجعة لهم فى التاريخ لأن الشعب هو الذى قضى عليهم هذه المرة.
قال منفعلا:
- طيب خلاص، هناك أمل، ما الذى يضايقك؟
- كلما طال الوقت طلت الدولة القديمة برأسها أكثر.
قلت ذلك بصوت هادئ، كنت أقوله لنفسى فى الحقيقة فقال:
- إذن هو هاجسك القديم، لا تقل لى غير ذلك.
قلت له: الأفضل فى هذا الحر أن نشرب الليمون بالنعناع مرة أخرى.
وفيما يبدو سمعنا الجرسون فهتف:
- النعناع خلص، لكن الليمون الحمد لله متوفر.
ضحكنا.