على مدار الأيام الأربعة الماضية كتبت منتقدا لكتاب عميد الأدب العربى «طه حسين» ولكنى قد أفاجئك إذا قلت إنى أعتبر نفسى أحد أحفاد هذا العملاق الكبير وببساطة لولا وجود طه حسين وتلامذته ومدرسته الفكرية لما تعلمنا ما تعلمنا، ويكفى أنه صاحب الدعوة الأولى لمجانية التعليم حينما قال «التعليم كالماء والهواء» ولولا تعلمى الكثير مما كتبه طه حسين نفسه لما جرؤت على انتقاده، فهو الذى دعا إلى الشك فى التراث وكتبته، وهو الذى صاغ رؤيته حول التراث والتاريخ بشكل حداثى خاص، وللحق أيضا فإن لكتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» أيادى بيضاء على الثقافة المصرية منها اعتناؤه بفكرة الديمقراطية، ومنها اهتمامه بتعليم المرأة، ومنها محافظته على اللغة العربية وتنميتها، ويجب أن تذكر دائما أننى لا أنتقد طه حسين بنفس المنطلق الذى انتقده به معاصروه، لكنى أنتقده بعد 75 عاما من تدشين خطته لـ«مستقبل الثقافة» وبعد أزمة سياسية واجتماعية مرت بها مصر، وأعتقد أن «الآن» هو الوقت الأنسب لمراجعة أفكارنا المسبقة، وبناء خطة استراتيجية ثقافية ممتدة تدوم لعشرات السنين.
إذن يبقى هنا أن نسأل: لماذا انتقدت كتاب طه حسين ولماذا حاولت أن أفند بما به من أقاويل حول الهوية المصرية؟ وإجابتى تتلخص فى أننى رأيت آثار ما دشنه طه حسين على حياتنا الثقافية حيث تحولت دعواه التغريبية إلى «اغتراب» حقيقى يعيشه المثقف المصرى، ولا أبالغ إذا قلت إننا نعيش الآن فى أسوأ عصور انحدار الثقافة، وذلك لأن الثقافة هى الكفيلة ببناء الإنسان وتحديد اختياراته، وعلى مدار السنتين الماضيتين اختار الشعب أسوأ ما فى مصر وجعله على رأس مفضلاته، يتساوى فى هذا تربع مرسى على عرش مصر، وتربع «عبده موته» على رأس إيرادات السينما المصرية، وكلاهما يعبر ببلاغة منقطعة النظير عن حالة من الغياب والتغييب والانحدار وما علينا إلا أن نتشبث بطوق النجاة الذى ظهر فجأة فى 30 يونيو بكل ما أوتينا من قوة، وإلا سننزلق ثانية فى «الغياب».
خطورة كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» هو أنه حاول أن ينزع مصر من جذورها فبدلا من أن يستكشف هوية مصر الحقيقية حاول أن يضع «باروكة» يونانية على رأسها، وهى من وجهة نظرى نفس خطيئة التيارات الإسلامية التى تجاهلت تاريخ مصر المتعدد وحاولت أن تضع عمامة مستعارة فوق رؤوسنا، وفى الحقيقة فإنه كما أخطأ طه حسين بادعائه أن عقل مصر «يونانى» فإن الإسلاميين ارتكبوا نفس الخطيئة بادعائهم أنهم هم حماة هوية مصر التى ادعوا أنها وهابية حينا ونفعية إصلاحية حينا آخر، وكما أخطأ طه حسين فى جزمه بالأصول اليونانية للهوية المصرية فإن ناقديه أيضا أخطأوا حينما حاول كل واحد فيهم جذب مصر إلى تياره ومعتقده، فى حين أن مصر أكبر من كل هذا وأشمل، والغريب أن طه حسين نفسه قد تنبأ بانهيار دعواه التغريبية فى روايته البديعة «أديب» التى كتب فيها سيرة رجل مصرى هاجر من مصر إلى أوروبا وهجر زوجته الطيبة وكفر بمصر والمصريين وحاول أن يصبح أوروبيا وأن يقتلع نفسه من جذورها فأصبح مسخا مجنونا مضطربا، وانتهى به الحالة فى مصحة للأمراض العقلية، غير أن طه حسين لم يعش ليرى هذا المسخ على أرض الواقع، لكننا «للأسف» رأيناه.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة