فى أواخر عام 1977 كنت ملتحقا بالإعلام الموحد فى منظمة التحرير الفلسطينية فى وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا» فى بيروت، وكنت قد حضرت دورة صحفية فى «وارسو» ببولاندا، وفوجئت بنشر قصة قصيرة لى بعنوان «عيون مليكة» فى جريدة «السفير» اللبنانية ولم أكن قد سلمتها بنفسى للجريدة فذهبت لمقر الجريدة لأعرف من الذى قام بنشرها لأشكره، وقابلنى الصحفى المصرى الكبير «مصطفى الحسينى» وكان أحد مؤسسى الصحيفة، وعرفت منه أن الذى أشار بنشر القصة هو الكاتب المسرحى السورى العبقرى «سعد الله ونوس»، وتوثقت علاقتى به وأهدانى مسرحيته «مغامرة رأس المملوك جابر» المنشورة فى كتاب سنة 1972 فى بيروت وما زلت أحتفظ بالكتاب حتى هذه اللحظة، و«مغامرة رأس المملوك جابر» مسرحية تدور أحداثها فى بغداد فى عصر المماليك عن ظلم الحكام فى بغداد فى هذا الزمن البعيد وعن مملوك من المماليك ذى دهاء كبير، وفى هذه المسرحية حاول «سعد الله ونوس» إعطاء بعض التفسيرات لطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم من خلال تناول موضوع الصراع على السلطة بين خليفة بغداد ووزيره، إذ يحاول الوزير إرسال رسالة لمناصريه بكشف الحقائق، فيقترح «المملوك جابر» على الوزير أن يكتب الرسالة على رأسه بعد أن يحلق شعره، ويذهب «المملوك» فى مهمته لتوصيل الرسالة التى سوف تكشف فساد الحاكم معرضا نفسه لقطع رأسه، وبالرغم من أن ما قام به «المملوك» فى «اليوم السابع» يشبه كثيرا ما فعله «مملوك سعد الله ونوس» عندما حمل لنا تسجيلات «مبارك» إلا أن هدف الصحفى الشاب «محمود رمضان المملوك» فى «اليوم السابع» كان أكثر شجاعة من «مملوك المسرحية» ومعرفتى الشخصية به تسمح لى بأن أقول بأن هدفه الوحيد هو نقل جزء بالغ الأهمية من تاريخ الفساد فى حكم مصر، لقد زاملنى «محمود رمضان المملوك» فى أيام ثورة 25 يناير وحملنى فى الهتاف وأعاننى كثيرا على الوقوف كلما سقطت على الأرض، وكان يقدم لى المياه الغازية لأغسل بها وجهى علاجا لتأثير الغاز المسيل للدموع، وبعد ذلك كنت أسعد به وبمجموعة من شباب صحفيى «اليوم السابع» عندما أستقبلهم فى بيتى عندما يدعوهم ابنى على أكلة يريدها أحدهم، كنت ألمح فى وجه «محمود المملوك» الأسمر وعينيه الضاحكتين الواسعتين وداعة وتحفزا وذكاء وكانت تعليقاته فى مناقشاتنا تعكس لماحية توحى بعشق فريد لمهنته وفهما لطبيعتها فقلت له ذات مرة أنه سوف يكون أكثر أبناء جيله من الصحفيين الشباب نبوغا ونجاحا ولم يكن ذلك من قبيل المجاملة، حمل لنا «محمود المملوك» ما لم نكن نستطيع معرفته عن ذلك الرئيس المخلوع، عن طريقة تفكيره، عن طريقة استقباله لأتباعه، عن روحه المنتهكة، عن أحكامه المضطربة، لم يتلق «المملوك» ثمنا لمغامرته مالا أو منصبا، ولكنه دفع الكثير من مجهوده ووقته وربما من مال جريدته «اليوم السابع» التى واجهت منافسة شرسة من آخرين للحصول على تلك التسجيلات، ولكن تاريخ الصحافة المصرية سوف يتوقف كثيرا أمام هذا الإنجاز الصحفى للمملوك و«اليوم السابع»، وسمعت أحدهم يقول على إحدى الفضائيات مستنكرا وملمحا بتلميحات غبية متسائلا: «لماذا «اليوم السابع» تحديدا هى من تحصل على هذه التسجيلات؟» ويتابع، لا فض فوه، قائلا: «هذا يجعلنا نتحدث عن علاقات «اليوم السابع»، وهذا يعكس غباء بقدر ما يعكس من جهل عن مهمة وأدوات مهنة الصحافة والتى جسدتها كبرى الصحف العالمية فى أمريكا «واشنطن بوست» حيث فجرت فى بداية السبعينيات أشهر فضيحة فى تاريخ أمريكا، وهى فضيحة «ووترجيت»، عندما قام الصحفيان «بوب وودوارد» و«كارل بيرنشتاين» بإجراء التحقيق فى الصحافة الأمريكية، وأدت تقاريرهما التى أعدوها إلى استقالة الرئيس الأمريكى «ريتشارد نيكسون» ولم نسمع أو نقرأ عن علاقة «واشنطن بوست» بالأجهزة الاستخباراتية الأمريكية لكننا عرفنا أنها فازت بعد ذلك وقبله بـ47 جائزة «بوليتزر»، كان العرب ينحرون الإبل عند ظهور شاعر موهوب فى القبيلة ولذلك سوف أذبح خروفا احتفالا بـ«محمود المملوك» وأدعوه وزملاءه الشباب فى «اليوم السابع» على أكلة فتة بالثوم والخل وهبر اللحمة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة