محمد مصطفى موسى

فهرنهايت 451

السبت، 28 سبتمبر 2013 07:11 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ما أحمق هؤلاء المخابيل الذين يختارون أن يحترقوا مع قصاصات صفراء بالية؟ عبارة قالها بطل رواية "فهرنهايت 451"، للقاص الأمريكى راى برادبرى، فى تعليق استنكارى، إذ بوغت بموقف امرأة عجوز، رفضت الانصياع لأوامره تسليم كتاب أثير لديها، حتى يضرمه، واختارت دون ذلك أن تسير إلى المحرقة، فيما تحتضن الكتاب، فيحترقا معا.

هكذا يقرر أولو العزم: الموت لا التخلى عما به يؤمنون، وهو أمر لم يفهمه بطل الرواية واسمه "مونتاج" إذ تراءى له أن الكتب لا تحمل خيرًا للبشرية، فليس فيها سوى أفكار تتصارع مع أفكار، ونظريات تتناحر مع نظريات، فما يقوله مفكر ينفيه باحث، وما تدعيه الفلسفة ينكره المنطق، وهذا نذير شؤم على الأرض، ومن ثم لابد من حرق الكتب – كل الكتب- فى درجة حرارة 451 على مقياس فهرنهايت.

مونتاج –تأمّل دلالة الاسم- الذى يعمل إطفائيًا، وينتمى إلى نظام شمولى قمعى، كان استعمر العالم بقوة السلاح الغاشمة، ثم أراد تأسيس كوكب الأرض على نحو جديد، بحيث تدين له القارات الخمس "بالسمع والطاعة".. ولتحقيق ما يبتغيه، قرر أن الناس لا يجب أن يستقوا آراءهم، إلا عبر تليفزيونه "الرسمى"، ذلك بعد تشذيب "الأفكار المضللة والرؤى الهدّامة" وهكذا يسلم المجتمع من الأخطار.

الرواية التى صنّفها كبار النقاد، واحدة من أهم روايات القرن العشرين، ليس لما بين سطورها، من نظرة فلسفية عميقة فحسب، لكن أيضًا للظرف التاريخى الذى رافق صدورها، عام ألف وتسعمائة وثلاثة وخمسين، ومع ذروة المد الإقصائى، الذى ضرب المجتمع الأمريكى، وسحق فيمن سحق، مفكرين وكتابا وفلاسفة وسياسيين، بتهمة العمالة للشيوعية، وذلك بعد خطبة لعضو الكونجرس، السيناتور جوزيف مكارثى، فى فبراير من عام ألف تسعمائة وخمسين، زعم فيها بأن وزارة الخارجية الأمريكية، أصبحت مرتعا لعملاء الاتحاد السوفيتى.

بعد الخطبة خرجت أفاعى الجنون من جُحورها، وتخبّط المجتمع الأمريكى فى ظلمات سوداء، وسُميت المرحلة لاحقًا بالمكارثية، وخلالها هرع مكتب التحقيقات الفيدرالى، إلى اعتقال نحو ثلاثة آلاف شخصية عامة، متخذًا إجراءات قمعية غير مسبوقة، وملتحفًا بغطاء من تأييد مجتمعى واسع.

لا للتسامح من العملاء، وما من عدو أشد خطورة من العدو السوفيتى الإرهابى "عدو الديمقراطية"، الذى يهدد هوية العالم الحر ويتربص بـ"أرض الأحلام".. وأمام هكذا خطر، يسقط القانون وسحقًا للعدالة.

مفكرون وصحفيون وفنانون ونخبة سياسية ومثقفة، أيّدوا المكارثية، وصفقوا حتى احمرت كفوفهم، لهجماتها الشرسة على نسق الحياة الأمريكية، بذريعة أن "القمع مؤقت" ومرهون بالمرور من المنعطف الحرج.

كانوا كلما انبرى فيهم واعظ يقول: أفيقوا.. إنما الساعة آتية، وكلما ذُكِّروا بمثل "الثور الأبيض" صعّروا خدودهم ومطوا شفاههم استهزاءً، حتى لفحتهم ألسنة اللهب، فأكلت منهم الجلد والشعر.

وعندئذٍ بدأت الصحوة.. وانتفض المجتمع وانتهى الأمر بحراك تحررى وثّاب، انتزع الحريات مجددًا، ونجحت الإرادة الشعبية الواعية فى أن تدحر "المكارثيين" بعد خمس سنوات عجاف، ما يزال الأمريكيون يشعرون بالخجل مما اقترفوا من آثام خلالها.

هذه النهاية.. نهاية القمع كانت قد تنبأت بها "فهرنهايت 451".. فللأدب بصيرة العرافين، والأدباء كما يقول شاعرنا صلاح عبد الصبور كالفئران، يستشعرون غرق السفينة مبكرًا، لكن فيما تقفز الفئران إلى الماء، يهرع الأديب إلى قرع الأجراس لكى يوقظ الغافلين.

ومثلما تلقت "المكارثية" الهزيمة من الإرادة المجتمعية، على أرض الواقع، فإن الرغبة الجامحة فى حرق الكتب، انتهت فى الرواية بأن خضع "مونتاج" لإغراء مراهقة تدعى "كلاريس"، بأن يقرأ بعض الكتب، حتى يفهم لماذا يتشبث الناس بهذه الأوراق البالية الصفراء إلى حد خوض النيران معها؟

ولما قرأ رق قلبه، وتسلل النور وئيدًا إلى أعماقه، قرأ ففهم فاستوعب فارتقى فـ "تأنسنّ" فتفتحت مداركه فانحاز إلى القراءة، وصار بعد أن كان من ألد معارضى الكتب، من أخلص المدافعين عنها، لا يتورع عن أن يحث خطاه إلى المحرقة، محتضنا "أوراقه البالية الصفراء".









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة