السياق الاجتماعى والسياسى الذى تطرح فيه الأفكار مهم جدا، ومن ثم فى القضايا الاجتماعية والسياسية لا نقول بأن شيئا صحيحا أو خطأ إلا فى السياق الذى يتم طرحه فيه، وهنا جرى الحديث عن أن هناك اتجاها فى لجنة الخمسين لوضع مادة تتحدث عن مدنية الدولة، وهنا أرى أن ذلك لا محل له، لأن المدنية هنا تستبطن المعنى العلمانى الذى يتخذ موقفا من الدين، ورغم أننا أشرنا مرارا وتكرارا إلى أن الدولة فى المنظور الإسلامى هى مدنية بالضرورة لأن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية، ولأن من يحكم فى الإسلام لا يحكم باسم الله، وأن الدولة المعاصرة التى نتحدث عنها فى مصر هى دولة حديثة مختلفة عن الدولة التى كانت فى الخبرة الإسلامية لأنها تقوم على مشاركة الشعب فى السلطة وتقوم على دستور يحدد العلاقة بين السلطات المختلفة، وأن هذه السلطات تعبر عنها مؤسسات منتخبة وليس أفرادا، وفى وثيقة الأزهر عن طبيعة الدولة المدنية أشارت إلى أنها دولة ديمقراطية وطنية حديثة ولم تتحدث عن مدنيتها فى نص الوثيقة لما قد يثيره مصطلح المدنية من غرائز واتجاهات مستترة للحديث عن دولة علمانية، فنحن نتحدث بالضرورة عن دولة مدنية لها دستور ولجنة للخمسين ونقاش حول سلطاتها وتقييد سلطة الرئيس واستقلال القضاء والتوازن بين سلطاتها المختلفة وتوزيع تلك السلطة على مراكز سياسية متنوعة وليس احتكارها فى يد سلطة واحدة، إذن ما تمارسه لجنة الخمسين هو عمل مدنى، وأن المنتج الدستورى هو منتج مدنى، وأن الدولة المعاصرة هى دولة مدنية السلطة فيها للشعب، فلماذا إذن ننص على أن الدولة مدنية فى الدستور ونثير التباسا وتوترا لا معنى له ونخالف ما استقر عليه كبار المثقفين وبعضهم شارك فى وثيقة الأزهر حول طبيعة الدولة والتى لم تشر فى نص الوثيقة على مدنية الدولة.
أنا من الذين دافعوا منذ وقت طويل عن مدنية الدولة وقلت إن المدنية والإسلامية لا تعارض بينهما أبدا، وأن طرح مدنية كمناقض للإسلام هو خطأ منهجى وعلمى وتعبير عن موقف أيديولوجى لليبراليين لا يريدون للإسلام أن يكون له موضع فى الحياة. المسألة الثانية التى أريد هنا المشاركة فى النقاش بشأنها فيما يتعلق بنقاش لجنة الخمسين مسألة غير المسلمين فى المادة الثالثة وهذا مصطلح علمى يشير إلى أن غير المسلمين يدخل فيهم جميع المذاهب والملل بما فى ذلك الوثنيين والملحدين والبهائيين، وغيرهم، وقد استقر الفقه الإسلامى على أن أهل الكتاب ممن لهم كتاب سماوى أى المسيحيين واليهود هم من لهم اعتبار قانونى وتنظيمى فى الدولة وعرفت الخبرة الإسلامية دور عبادتهم بل واشتراكهم كجزء من بنية السلطة الإسلامية ذاتها كما عرفناها فى الخبرة العثمانية مثلا حيث كان ترتيب شيخ الإسلام يأتى بعد السلطان ومن بعده الحاخام اليهودى ومن بعده ممثل الطوائف المسيحية، ومن ثم فإن النص على اليهود والمسيحيين من حيث الاعتراف بالوضع القانونى والتنظيم لهم هو الصحيح، ومن وراء هؤلاء من تيارات عدمية أو تيارات وافدة من مذاهب إسلامية لا تتجاوز أعدادهم الآلاف هم مواطنون يشملهم الدستور والقانون بحمايته كأفراد وليس كجماعات تهدد الأمن القومى والوطنى للبلاد تحت دعاوى فارغة من قبيل أن الدول الغربية فيها تيارات من هذا النوع، نعترف بمثل هؤلاء كمواطنين أفراد ولكن لا نقر لهم وجودا قانونيا وسياسيا فى الدستور حماية للأمة ووحدتها بعيدا عن مذاهب الانقسام والعدمية والفوضى.