دائما ما يتبع السؤال عن الهوية الثقافية لمصر الكثير من الجدل، لكنى فى الحقيقة أرى أن هذا الجدل مصطنعا إلى حد بعيد، وأعتقد أن الجزء الأكبر من هذا الجدل لا ينبع من هم علمى حقيقى وإنما ينبع من تطرف وتعصب أيدلوجى مقيت، فكل طائفة أو فئة تريد أن تجذب مصر إلى معسكرها الثقافى وحده لا غيره، ولقد رأينا على مدى الأسبوع الماضى كيف حاول عميد الأدب العربى طه حسين أن يجعل مصر يونانية الهوى رغما عن أنف مصر، كما رأينا خلال العام الماضى كيف حاول خصوم طه حسين التاريخيين من الإسلاميين أن يختطفوا مصر إلى أهوائهم ومنهجهم، ولو سألت قبطيا مسيحيا متعصبا عن مصر وهويتها فإنه بلا شك سيدعى أنه مصر قبطية مسيحية الأصل، تماما مثلما صرح أحد قساوسته حينما قال إن المسلمين ضيوف على أرض مصر، بينما يقف التاريخ الفرعونى وحده «يتيما» أبتر الأنصار، لا لشيء إلا لأن الديانة المصرية القديمة قد انزوت وانتهت، ولو كان لدينا «فرعونيين» لرأيت من يدعى أن مصر فرعونية فحسب مطالبا باستبعاد كل رافد ثقافى آخر.
المشكلة الحقيقية أن ادعاءات كهذه من شأنها أن تؤسس كنتونات ولا أوطانا، فالتعصب حتى ولو كان فى العلم لا يورث إلا الاحتقان، وبرغم أن كل محاولات اختطاف الوطن نحو شيء بعينه فشلت تماما، لكنها أورثتنا روحا متعصبة سرت فى خطابنا وحياتنا وقاعات محاضراتنا، وأذكر أنى حينما كنت طالبا فى كلية الآثار جامعة القاهرة كان الأساتذة ينفقون الساعات الطوال فى شرح ما جاء بكتب المستشرقين عن الآثار الإسلامية ثم ينفقون ساعات مثلها فى تفنيد كل ما قيل فى هذه الكتب، فقد كان المستشرقون يعتقدون أن الحضارة الإسلامية «عالة» على ما قبلها من حضارات، أما أساتذتنا فكانوا يدافعون عن الحضارة الإسلامية مؤكدين أنها حضارة فريدة أتت بكل ما فيها بناء على أمرين اثنين «البيئة أو الإبداع» وقد كنت كثيرا ما أقول لنفسي: لماذا يصدعوننا بمثل هذه المعارك ليدخلوننا إلى معارك أخرى؟ وما ضرهم لو قالوا إن الحضارة الإسلامية اقتبست من أسلافها واستعانت بما توفر لها من إمكانيات كما جددت وأبدعت وصاغت شخصيتها وروحها وتفردها.
هذا التعصب الأعمى فى قاعات الدرس والمساجد والجامعات والصحف ومراكز الأبحاث هو الذى قاد مصر فى الفترة الأخيرة إلى حتفها، ولولا بقية باقية من روح الشعب المصرى الكبيرة لقلنا على مصر «يا رحمن يا رحيم» فآفة الرأى الهوى، وآفة الرؤية أن تنظر بعين واحدة، ولا أعرف كيف ورط مثقفو مصر وباحثوها أنفسهم فى مثل هذا التناحر الأحادى القاتل، ليجزموا بأن مصر تنتمى إلى عصر واحد من العصور الطويلة التى مرت عليها، حارمين إياها من ثراء لا محدود وتنوع فريد حباها الله به، ولهذا فإنى لا أرى مانعا يحول دون القول إن مصر «مصرية» ليست فرعونية فقط ولا رومانية فقط ولا يونانية فقط ولا قبطية فقط ولا عربية فقط ولا أوربية أصلا، بل هى مصرية حتى النخاع، فيها امتزجت الحضارات وتنوعت الموارد وتناغمت الثقافات، وهذا ما يعرفه معظم دارسى التاريخ والآثار والآداب، أما أصحاب ادعاء «النقاء الحضارى» فهم لم يستوعبوا ما تعنيه كلمة حضارة أصلا، ولم يتعلموا شيئا من الحضارة التى درسوها، لأنهم لو استوعبوا شيئا لعرفوا أن معظم حضارات العالم «ذرية بعضها من بعض».
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة