للأسف فقد عشنا سنين طوالا فى ظل وزارة ثقافة بلا عقل، تجرى نحو مجد زائف و«أنشطة» للاستهلاك الإعلامى ومهرجانات للاستعراض فحسب، ولست هنا لأنكر ما قامت به وزارة الثقافة فى العهد السابق أو لألغى بـ«جرة قلم» ما بذل على مدى عشرات السنين وهو كثير بالمناسبة، لكنى فقط أؤكد على أن سياسة وزارة الثقافة فى الحقبة الماضية لم تكن هى الأنسب والأوفق بالنسبة لنا، ذلك لأنها لم تجذب إليها إلا المنجذبين أصلاً، وتركت الشرائح الكبرى فى المجتمع المصرى فى يد حفنة من مرتزقة الأديان وسماسرة الجنة ومانحى صكوك الغفران.
حاول أن تحصى مراكز الإشعاع الثقافى على خريطتنا المصرية وستجد أنها تكاد تكون مظلمة باستثناء الحواضر الكبرى كالقاهرة والإسكندرية والجيزة، فنحن لدنيا مثلاً حوالى 500 بيت ثقافة فى أنحاء مصر كلها نصفها على الأقل خارج الخدمة «فعلياً» والنصف الآخر تحول معظمه إلى بيوت أشباح وأداة من أدوات تقنين البطالة، لا فكر ينبت ولا إبداع يبزغ، بينما وبحسب إحصاء وزارة الأوقاف فإن لدينا أكثر من مائة ألف مسجد وزاوية تحول معظمهم للأسف إلى منصات للمتطرفين حتى أصبح الصراع على الاستحواذ على المساجد أقسى من الصراع على صفقات الفساد، فالمسجد هو الآخر مسه ما مس حياتنا من تدهور وبعد أن كان منارة للفكر وحاضنا للإبداع الفكرى والدينى وفسحة من الحياة ووقاحتها أصبح مفرخة للانغلاق ومدرسة للأحادية وداعماً لتيارات العنف المستجلبة، كل هذا حدث فى مصر فى ظل وزارة كانت لا تبخل بالملايين على مهرجان المسرح التجريبى الذى لا يشاهد عروضه إلا المتخصصون تاركة المسرح المدرسى ليصبح ذكرى فى أذهان عباد الزمن الجميل.
لست هنا بصدد محاكمة وزارات الثقافة السابقة، فما يهمنى هو المستقبل، وإنى لا أعرف أحدا سار إلى المستقبل دون أن تكون له رؤية واضحة ومعرفة بالمهمة التى يعتزم القيام بها، وهو الأمر الذى غاب عنا فى السابق، فقد تركنا قرانا نهبا للمتطرفين، ومدننا نهبا للعشوائيين، وحدودنا نهبا للإرهابيين، وكأننا إلى العمى نسعى وبالعمى نعيش، ونسيت وزارة الثقافة أنها وزارة ثقافة الشعب وأن دورها الحقيقى هو أن تصل برسالة التنوير والتحديث إلى أبناء الوطن وأن معيار نجاحها هو مستوى الثقافة التى وصل إليها الشعب، وليس مقدار عدد المهرجانات التى تقيمها فى داخل القاهرة، ولذلك نسيت الوزارة عمل أبحاث دائمة لرصد الحالة الثقافية ودراسة ميول الشعب واتجاهاته والمستجدات التى طرأت على شخصيته والمدخلات التى أصبحت جزءا من نسيجه، كما نسيت ربط برامجها باحتياجات الشعب الثقافية وفى وضع كهذا كان طبيعياً أن تنسى الوزارة عمل وحدة قياس لانحراف الشعب عن هويته الثقافية وخطته الإستراتيجية ثقافيا ومقاومة أى انحراف قد يتعرض له الشعب لأنه فى الأساس لا يوجد تعريف محدد لهوية الشعب الثقافية كما لا توجد خطة استراتيجية تتبعها الوزارة، وبالمناسبة فإننى لم أكن أقصد أبداً حينما ناديت بعمل خطة استراتيجية للوزراة أن تختص الوزارة وحدها بالقيام بهذه الخطة، وإنما هى «خطة دولة» تريد أن تبنى مواطناً وتصقل وطنا عن طريق محاصرة المواطن بثقافته الأصيلة.
للحديث بقية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة