ما أكثر الكلمات التى نستخدمها يوميا دون أن نعرف أصولها أو حتى كيفية استخدام المفردة فى سياقها الصحيح حتى تثرى المعنى وما أكثر المدعين والأشباه الذين يستخدمون الكلم فى غير مواضعه، وهنا يظن الكاتب أن مصطلحات اللغة فى السياسة جديرة بالشرح والتفسير على الأقل خلال هذه الفترة، ولكننا لسنا بصدد شرح أكاديمى لكلمة ومعناها وإنما شرح ارتباطها بالأذهان لكثرة تداولها بل نتطرق لأهميتها فى الفترة الراهنة وحديثنا فى هذا الحال عن الدستور.
كلمة الدستور ليست عربية الأصل ولم تذكر القواميس العربية القديمة هذه الكلمة، ولهذا فإن البعض يرجح أنها كلمة فارسية الأصل دخلت اللغة العربية عن طريق اللغة التركية، ويقصد بها التأسيس أو التكوين أو النظام. وفى المبادئ العامة للقانون الدستورى يعرف الدستور على أنه مجموعة المبادئ الأساسية المنظمة لسلطات الدولة والمبينة لحقوق كل من الحكام والمحكومين فيها بدون التدخل فى المعتقدات الدينية أو الفكرية، وبناء الوطن على العالمية والواضعة للأصول الرئيسية التى تنظم العلاقات بين مختلف سلطاتها العامة، أو هو موجز الإطارات التى تعمل الدولة بمقتضاها فى مختلف الأمور المرتبطة بالشؤون الداخلية والخارجية.
يعكس مشروع الدستور الجديد فى مصر التحالف بين الأحزاب السياسية الفاعلة فى المشهد المصرى والأطراف والشخصيات العامة التى تمثل التكتلات والأفكار الممثلة لشتى ألوان الطيف الاجتماعى المصرى التى بدروها ساعدت فى الإطاحة بالرئيس محمد مرسى من الحكم فى يوليو. إن قوة هذا التحالف -وقدرته على تحقيق تفويض مقنع فى الاستفتاء الدستورى فى يناير- على المدى القصير، ستحدد فيما إذا كان بإمكان التحول السياسى فى البلاد أن يمضى قدماً أم لا. أما على المدى الطويل، فإن التوقعات لمستقبل مصر تظل غير واضحة ألا أنها تبدو مبشرة حيث من المتوقع أن يتم تطبيق الإنفاق الحكومى الهائل المنصوص عليه فى الدستور الجديد دعما لمنظومة التعليم والبحث العلمى والصحة وتشجيع الزراعة والحركة الفلاحية والصناعية ومن ثم انعكاس واضح على نمو الاقتصاد المصرى ومعدلات دخل الفرد ونصيبه من الخدمات.
المصريون يجنون ما زرعته أيديهم
يتوافق مشروع الدستور الحالى مع رغبات عموم المصريين فى ثلاثة جوانب. الأول، تقليص الصبغة الدينية المتشددة عما كان عليه الحال مع الدستور السابق إلا أنه يؤكد أن «مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع» «المادة 2»، ولمنع تكرار أخطاء الماضى يحظر الدستور الجديد قيام الأحزاب الدينية «المادة 74».
يمنح الدستور الجديد استقلالاً موسعاً لمؤسسات الدولة؛ على سبيل المثال، ينص الدستور المقترح على إنشاء «مجلس أعلى للشرطة» يتعيّن التشاور معه حول جميع القوانين المتعلقة بالشرطة «المادة 207». وبالإضافة إلى منحة «ميزانية مستقلة» لكل هيئة قضائية واستقلالية فى «إدارة شؤونها بنفسها» «المادة 185»، فإنه يخول «الجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا» تعيين رئيس المحكمة «المادة 193». كما يخول أيضاً «مجلس القضاء الأعلى» تعيين النائب العام للحكومة «المادة 189»، وهى السلطة التى كانت ممنوحة للرئيس بموجب الدستور السابق.. مما يخل بمفهوم استقلال المؤسسات.
يؤكد هذا الدستور على وطنية المؤسسة العسكرية المصرية حيث تؤكد الديباجة أن الجيش كان ولا يزال «عماد» الدولة منذ عهد محمد على فى القرن التاسع عشر، وتثنى على «جيشنا الوطنى» الذى «حقق انتصاراً وفقاً لإرادة شعبية كاسحة تمثلت فى الثورة المجيدة فى الفترة 25 يناير - 30 يونيو» كما أن مشروع الدستور الجديد، مثله مثل الدستور السابق، ينص على اختيار وزير الدفاع «قائده العام» من بين ضباط الجيش «المادة 201»، ويحمى استقلالية الجيش كغيره من المؤسسات من خلال تخويل «مجلس الدفاع الوطنى» «المادة 203»، كما يحد من محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية «المادة 204» على عكس الدستور السابق.
هل يمكن للتحول السياسى فى مصر أن يمضى قدماً؟
إن حقيقة كون الدستور الجديد يعكس الائتلاف الحاكم الحالى فى مصر ليست جديدة ولا مفاجئة. فالدستور السابق جسد التحالف الذى كان يحكم قبل أقل من عام، حيث منح مرسى والإسلاميين موطئ قدم فى تأسيس أجندتهم الدينية، مع ضمان رضا الجيش من خلال منحه استقلالاً غير مسبوق بل أكثر مما يمنحه الدستور الحالى ومع ذلك، فإن المستقبل القريب للتحول فى مصر يتوقف على ما إذا كان التحالف الحالى أكثر قوة ومتانة من سابقه، الذى انهار بالكاد بعد ستة أشهر من الموافقة على الدستور فى أعقاب إجراء استفتاء حوله.
وتعتمد الإجابة على المدى القصير على الاستفتاء الجديد وإمكانية تمرير الدستور بنجاح ملحوظ فى 14-15 يناير. حيث الموافقة بـ«نعم» بنسبة كبيرة وبإقبال كبير من قبل الناخبين وعدم قمع الناخبين هى أمور من شأنها أن تعزز التحالف الحالى وتضفى الشرعية على الانتخابات البرلمانية والرئاسية التى ستعقب ذلك. وفى المقابل، فإن التصويت على الدستور بـ«نعم» بنسبة قليلة من شأنها أن تقوض جدوى العملية الحالية بشكل كبير، وخاصة إذا كانت عملية التصويت مصحوبة بإقبال ضعيف أو عمليات قمع على نطاق واسع. فذلك سوف يشجع الإخوان المناهضين «للتحول السياسى فى البلاد» على تكثيف احتجاجاتهم، وتشير بعض استطلاعات الرأى إلى أن الجيش لا يزال يحظى بدعم شعبى قوى، ولكن الإحباط المصاحب للمرحلة الانتقالية قد تصاعد فى الأشهر الأخيرة، مما يدعو للتعجيل بإنهاء خارطة الطريق بل ويدفع نحو انتخابات رئاسية سابقة على الانتخابات.
هنا تأتى إشكالية هامة بعد نجاح الاستفتاء على الدستور الجديد فإن الإنفاق الحكومى الهائل المنصوص عليه فى الدستور الجديد غير قابل للاستمرار على المدى الطويل ما لم تتوافر بعض الشروط الضرورية، فلو أوفت الحكومة بالمتطلبات الدستورية لإنفاق 10 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى -وليس مجرد 10 فى المائة من ميزانيتها- على خدمات اجتماعية محددة، فإن ذلك يمكن أن يحفز قيام أزمة نقدية حادة من شأنها أن تعرض دعم المواد الغذائية والوقود إلى الخطر، الأمر الذى سيثير غضب قطاعات كبيرة من السكان وربما يوسع نطاق المظاهرات المناهضة للحكومة. وتشير أحدث البيانات الاقتصادية إلى وجود خطر كبير من هذا الإنفاق الحكومى الهائل: يشار إلى أن الاحتياطى النقدى فى مصر تراجع من 18.6 مليار دولار إلى 17.8 مليار دولار بين أكتوبر ونوفمبر، ولا تتوقع الحكومة استمرار سخاء دول الخليج العربى الغنية إلى ما لا نهاية -بعد أن قامت هذه بتقديم بضعة مليارات من الدولارات إلى القاهرة فى أعقاب عزل مرسى. بيد أنه لو حاولت الحكومة تجنب هذه النتائج من خلال وضع رؤية مستقبلية عملية فى إطار الموجودات للتنمية الصناعية والتكنولوجية والخدمية والزراعية وبدأت فى استنهاض الاستثمار المحلى وتشجيع الاستثمارات العربية والأجنبية وتوجهت بعين فاحصة وخبيرة للداخل الأفريقى فإنه بهذا تتوافر شروط استمرارية الإنفاق الحكومى المنصوص عليه فى الدستور بل وزيادته بشكل منتظم مما يخلق بطبيعة الحال استقرارا اقتصاديا وسياسيا.
لهذا كله فإن هذا الدستور يثير ضيقا لدى بعض الدوائر الأمريكية تحديدا داخل البيت الأبيض فى حين أنه يتوجب على دوائر صنع القرار فى الولايات المتحدة أن تؤمن بأن مصلحتها تكمن فى استقرار مصر واتجاهها نحو حكم ديمقراطى فعال، يجب أن يأتى رد واشنطن على الاستفتاء القادم مؤكداً لأهدافها على المدى القصير والطويل على حد سواء. ويعنى ذلك تشجيع عملية تصويت حرة ونزيهة من خلال التعهد برفع تعليق المساعدات العسكرية لمصر الذى أقرته عقب الإطاحة بمرسى إذا تم إجراء الاستفتاء بشكل صحيح. فينبغى على واشنطن وحلفائها فى المنطقة أن يبدأوا بدراسة استراتيجيات تهدف إلى تشجيع القاهرة على تنفيذ إصلاحات اقتصادية وسياسية الجميع فى أمس الحاجة إليها.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة