حتى قبل أن تبدأ الثورة الفعلية فى مصر كانت النظريات أسرع وأغزر، وبقدر ما كانت هناك رغبة فى إزاحة نظام مبارك، لم تكن هناك استعدادات لما بعد الإزاحة، ولهذا لم يظهر من يمكنه تقديم تصور لشكل الدولة، وإمكانية تحقيق التطهير ومواجهة الفساد وتحقيق الحرية والعدالة، وظل الناس العاديون ينتظرون لكنهم لم يجدوا غير الحيرة.
كان هناك سياسيون عاجزون، ونجوم ظاهرون بلا تصورات، وأغلبية تتفرج وتنتظر أن ترى خطا تسير نحوه، لم يتوقف نجوم المرحلة عن طرح نظريات لم يختبروا صحتها أو خطأها، لأنهم ببساطة لم يجربوها، ولم يطرحوها حتى لنقاش مع أنفسهم. كانوا يحفظون الكلام، ويستمتعون برنين الكلمات والجمل الكبيرة داخلهم، تحدثوا كثيراً عن نظريات. وخلال ثلاث سنوات إلا قليلا استمعنا وقرأنا آلاف النظريات عن الثورة، وآلاف الكلمات عن الأخلاق والسياسة، لكننا لم نر منها ناتجًا عملياً، وتتكشف يوميا حالة «الطبل الأجوف» لكثير من الزعامات، التى لم تتجاوز الكلمات حناجرهم. وظلوا يقدمون فى كل موقف، نفس الكلام، ونفس الروح الكئيبة، التى تضيع الوقت، وتسحب الأمل من النفوس.
اليوم يستعد المصريون للتصويت على الدستور الثانى بعد الثورة، وهى المرة السابعة منذ يناير 2011، وفى كل مرة يحملون أملاً فى أن تكون بداية للوقوف فى بداية الطريق. فى استفتاء مارس ثم مجلس الشعب المنحل، وفى الشورى أعطوا ظهرهم لأنهم عرفوا أن مجلس الشورى مجرد مخزن للقوى السياسية، ثم الرئاسة مرتين وصوتوا على دستور 2012.
اليوم هى المرة السابعة التى ينزلون فيها ليبدأوا مرحلة ثانية من الفترة الانتقالية، وأملهم مثل كل مرة أن تكون بداية، تعطى أملاً، فى كل مرة استفتوا قلوبهم ونزلوا، واليوم هم يفعلون ذلك، بنعم أو لا، أو حتى يقاطعوا، ليخرجوا من مرحلة انتقالية، يراها البعض طالت، وتعرجت بها الطرق، لكن هؤلاء المتعجلين لايعرفون أن الثورات تأخذ وقتا، الثورة الفرنسية قطعت عشر سنوات فى صراع وفراغ وألم ودم، بعدها عادت إلى الملكية، ثم إلى الجمهورية بعد عقود، والثورة الروسية هى الأخرى فشلت 1905، ثم عادت 1917، وبعد 70 عاما كانت محل تقييم، هذا عن الثورات الكبرى.
أما الثورات النصفية، مثل أوروبا الشرقية ورومانيا وبولندا، وغيرها فقد تراوحت وتأرجحت، وكانت دائمًا محل أفعال وصراعات داخلية وخارجية، لا يمكن إنكارها، وهو شبيه بما نواجهه اليوم، ولا يمكن لعاقل أن يتعامل مع ثورتنا على أنها فعل منفصل عن العالم، ولا فعل منفصل عن ترسبات السنين، وتقاطعات لمراحل ومصالح وصراعات، ومال وسلاح، وإرهاب وتطرف لا ينفصل عن بعضه فى الخارج والداخل، ربما لا يكون المواطن العادى على دراية بكل هذا، لكنه بالقطع يشعر ويعرف بفطرته، أكثر مما يحاول «الطبل الأجوف» أن يقنعه.
المواطن الذى نزل فى مارس وفى انتخابات برلمانية ورئاسية، وحتى نزل بكثافة فى التصويت على دستور الفرقة، ينزل اليوم بلا خوف، لن تؤثر فيه دعاية مع أو ضد، لكنه يستفتى قلبه، ويقول ما فى ضميره، من أجل مصر.