المشهد مفاجأة لمن لم يتعرفوا بعد على الشعب المصرى، مفاجأة أن يخرج كل هؤلاء الناس للمشاركة فى التصويت على الدستور، ومن يفاجئهم هذا هم من فاجأتهم أعداد المصريين فى 30 يونيو، وربما فى يناير، فهؤلاء لا يثقون فى الشعب، يتعالون عليه ويسخرون من فطرته وبساطة مطالبه. المفارقة أن أكثر من يبالغون فى الحديث عن الديمقراطية والاختيار هم أول من يسخر من مشاعر الناس البسيطة، يدعوهم للمقاطعة، من دون أن يقدم لهم مبررات تجعل المقاطعة مجدية.
الشعب المصرى يفاجئ من لايعرفونه بعمق فطرته، بعيدا عن فجاجة الدعاية من أى طرف، المسألة أن أغلبية الشعب تسير فى طريقها بعيدا عن هؤلاء المبالغ فيهم من أى جهة، من هؤلاء الذين اعتبروا التصويت بالرفض خيانة، أو من اعتبروا الموافقة عسكرة، كلاهما غير مقنع ولا مقتنع. حق الرفض والقبول مكفول وضرورى.
هناك من دعا للمشاركة فى الاستفتاء بصدق، سواء بنعم أو لا، ومن دعا للمقاطعة، وهؤلاء فى الغالب ليسوا شريحة واحدة، ولا يجمعهم شىء، وبعض دعاة المقاطعة، يفضلون المقاطعة على المشاركة، لمعوا فى المظاهرات وعند كل انتخابات يصدرون المقاطعة، كسلا أو حيرة، ولن تجد لدى أى منهم حجة مقنعة. لا يعرفون أن التصويت الخاطئ جزء من الديمقراطية، وأن التجربة والخطأ وجدا ليتعلم منهما الناس، والأهم أن المثقف المذهول لن يقدم تفسيرا، وسوف يكتفى بالهمهمة والحمحمة بلا نتيجة.
قد يكون الإخوان وأنصارهم واضحين فى دعوتهم للمقاطعة أو التصويت بالرفض، لكن هناك فصيل «بين بين» لا تعرف له هوية ولا رأيا، غير الضجة الفارغة، هم من كانوا ينوون المقاطعة فى كل الأحوال، لكنهم يبحثون عن مبرر حتى لو كان ضعيفا، تجد لديه كلاما هلاميا، ولاحظ أن من قاطعوا اليوم قاطعوا انتخابات الشعب فى الاستفتاء الأول والثانى، ومع أنهم لم ينتج عن موقفهم نتيجة يواصلون الموقف نفسه، وفى كل مرة ينتظرون نتائج مختلفة، وبعض هؤلاء لم يقدموا للثورة أى فكرة، ولم يسعوا لشرح وجهة نظرهم، ويكتفون بجمهور افتراضى، يرضى غرورهم.
لم تثبت المقاطعة فائدة، من يقول نعم أو لا، يعرف قدرته وحجم من معه ومنافسيه، ويمكنه أن يعدل مساراته بناء عليها، لكن من يقاطع لن يعرف أبدا حجمه ولا من معه، وسيظل غارقا فى الوهم، يتخذ المواقف نفسها ويقدم المبررات نفسها، بلا اجتهادات، لأنها حلول مريحة.
وبالعودة للطوابير واحتفالات المصريين بالاستفتاء على الدستور، درس آخر، على بساطة هذا الشعب وقوته وجبروته، فهذا الشعب الذى يصوت فى الدستور، لن يسمح لأحد بسرقة إرادته، ولدينا تجارب قريبة، الشعب يعمل ما عليه، وينتظر أن يأتى من يعمل ما عليه أيضاً، بينما يبقى هناك متفرجون يطلقون الروح السلبية، وهم لا يعرفون ماذا يقولون فى الخطوة المقبلة. الدرس الأول مكرر، للمتحذلقين الذين يكررون الفعل وينتظرون نتيجة مختلفة.