تعودنا فى كل الانتخابات والاستفتاءات على مشاهد فكاهية غير مصطعنة من المواطن المصرى أمام مقرات اللجان الانتخابية، تعكس عبقرية المصريين، ومدى تناولهم للمحطات الحرجة من تاريخ البلاد بخفة الدم، وكان أبرزها عبارة كتبها أحد المواطنين على سيارة أجرة «لو صباعك مش بمبى.. ماتقعدش جنبى»، ومواطن آخر كتب «عليا الطلاق بالتلاتة نعم»، وثالث ارتدى ثوب الزعيم الراحل أحمد عرابى وركب الحصان أمام اللجنة، ورابع قص شعره وكتب على رأسه كلمة «نعم».. غير أن كل تلك المشاهد لم تأخذ حيز اهتمامنا عن مشهدين فى غاية الأهمية، يحملان دلالات نوعية حقيقية.
الحب فى أنبوبة الأكسجين بطابور الاستفتاء
تخيل نفسك وأنت تقف فى طابور الاستفتاء، وفجأة تكتشف أن من يقف خلفك هو رجل مسن تعدى الستين عامًا، تبدو على وجهه تجاعيد مشقة الحياة، لا يستطيع أن يتحرك، فتسأل نفسك: «إيه اللى جاب الراجل ده؟ هو يعنى صوته هيفرق، ما الناس كلها هتقول نعم والموضوع هيخل».
قبل أن يجيب عليك عقلك الباطن بأسئلتك الافتراضية، تكتشف مفاجأة أكثر صدمة بالنسبة لك، وهى أن الرجل المسن الذى يقف خلفك، رجل مريض، ويحمل جهاز تنفس على فمه، مرتبطًا بخرطوم بلاستيكى يتصل بأنبوبة أكسجين من الحجم الصغير يحملها ابنه الذى يرافقه بالطابور.
الثابت هنا فى تفكيرك الأولىّ بعد رؤية المشهد كاملًا هو أن أى مواطن عاد فى وضع صحى مماثل لهذا الرجل المسن لن يتوجه إلى الاستفتاء، ولكن المتغير والشاذ أن عبقرية المواطن المصرى تجلت فى هذا الرجل الذى تواجد بالفعل أمس فى لجنة انتخابية للإدلاء بصوته، وأن المصريين لا يتعاملون مع الدستور الجديد باعتباره «كلامًا على ورق»، لكن باعتباره «أكسجين» للحياة.
هذا الرجل المسن أثبت أن المواطنين من الفئات العمرية المتقدمة، والمرضى مثله لا يكتفون بأكسجين «الأنابيب الصناعية» للبقاء أحياء، بل يعتمدون على وسائل أخرى، فهو يستنشق «أكسجين» جديدًا مع كل خطوة يخطوها إلى لجنة الانتخابات.. مع كل مواطن يبتسم فى وجهه وهو يقف فى طابور الاستفتاء.. مع كل كلمة «نعم» يسمعها ممن صوّت للدستور الجديد.. مع كل نظرة أمل للمستقبل فى عيون الشباب، يستنشق «أكسجين» بطعم مختلف عندما يمسك ورقة التصويت ويوقّع فيها بالموافقة على الدستور الجديد.
بعيدًا عن كونك رافضًا أو مؤيدًا للدستور، قد لا تعطى اهتمامًا من الأساس بحرص مواطن مثل هذا المسن المريض على الذهاب إلى اللجنة فى هذا الظرف الصحى، لكن عليك أن تعلم أن أى نجاح عظيم ينجح فقط لتفاصيله العظيمة، وموقف هذا المواطن المصرى هو موقف عظيم، يكفى للرد على كل أكاذيب الإخوان بأن المنتشرين فى الطوابير أمام مقرات اللجان الانتخابية هم جنود من الأمن المركزى بزى مدنى، ورجال النظام السابق، وفلول الحزب الوطنى، وأصحاب المصالح، ولكن الأكيد أنهم جنود مصر الحقيقية من شبابها ورجالها وعواجيزها ومسنيها، وأيضًا المرضى ممن يتحملون المشقة فقط لخدمة «تراب الوطن".
الرقص بعد الأربعين:
يتزايد الخجل والحياء بتقدم العمر، وقد تكون هناك أفعال أو تصرفات تصدر منك فى سن مبكرة، لكن لا تصدر بعدها بسنوات إلا فى أوقات خاصة جدًا ترتبط بعاطفتك، ومدى السعادة أو الحزن الذى يملأ قلبك وقتها، ومن بين تلك التصرفات هو«الرقص»، والرقص عندنا فى التقاليد الشرقية فعل خاص لا يقوم به الشخص إلا بين أهله وأحبابه وأقاربه، يكون فى أوقات البهجة والأفراح، يحبه المصريون بطبيعتهم فى «الصغر»، لكنه يصبح أمرًا غير محبوب فى «الكبر»، وانطلاقًا من تلك القاعدة، هل لديك أى إجابة عن رقص السيدات وزغاريدهن أمام مقرات اللجان الانتخابية فى أكثر من محافظة، فى وقت واحد بدون ترتيب؟
الإجابة : لا
السبب: «مش عارف»، لكن المبررات لهذا الفعل وحده هى أن كل السيدات المصريات لديهن شعور كبير بالفرحة بتقدم البلاد خطوة جديدة، وخروج دستور مصر الجديد إلى النور بعد عام مؤلم من حكم الإخوان.. التبريرات تقود إلى أن السيدات المصريات برقصهن وزغاريدهن يعبرن عن «طين» مصر الحقيقية، عن معدنها الأصيل، عن فرحتها التى خرجت للنور بعد وقت طويل من "الخنقة."
الرقص بعد الأربعين، والحب فى أنبوبة الأكسجين هما خير دليل على أن مصر محفوظة بأهلها ممن نزلوا لإنقاذها من فساد رجال مبارك فى 25 يناير، ومن طمع الإخوان فى 30 يونيو، ووقفوا فى طوابير الاستفتاء 14 و15 يناير.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة