خالد صلاح

خالد صلاح يكتب: قنابل مثيرة للشجون.. هوامش من ذكريات عابرة للدفاع عن القيم النبيلة لثورة يناير

الأربعاء، 22 يناير 2014 07:01 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
1- قسم الأزبكية
كنت أرتعد خوفًا على بنيان الدولة فى الليلة التى اقتحم فيها مجهولون غرباء السجون المصرية وأقسام الشرطة فى القاهرة والمحافظات.. كانت شعارات ثورة يناير يوم الخامس والعشرين ملهمة، وكان الأمل فى التغيير يملأ القلوب حماسًا وبهجة وتطلعًا نحو المستقبل، لكننى لم أستطع أن أقاوم هذا الرعب الكامن فى أعماقى بعد يوم الثامن والعشرين من يناير، فعندما حل ظلام تلك الليلة، وخرجت قوى الشر تطيح بكل ما تبقى من كيان الدولة آنذاك، أدركت أننا قد ننحرف إلى مسار أسوأ.

كنت أقف بسيارتى أعلى كوبرى أكتوبر ليلة الثامن والعشرين، أراقب هذه الجحافل الغاضبة التى تحرق قسم الأزبكية، وتطلق سجناء القسم، وتطيح بمستندات الشرطة من الشرفات العالية للمبنى العتيق بعد تحطيمه، وعندما تحركت بعيدًا عن هذا المشهد، صدمتنى جحافل أخرى بعدها بأمتار تحرق مبنى محكمة الجلاء بكل ما فيه من أثاث وأوراق القضايا، ومكاتب وكلاء النيابة والقضاة.

عندها فقط ملأنى الخوف، وتبدلت مشاعرى نحو كل ما يجرى، تذكرت تلك الليالى المخيفة التى قضيتها فى العراق خلال الحرب الأمريكية على بغداد، وتذكرت أصوات طلقات الرصاص التى لا تنقطع فى الأزقة والطرقات المحيطة بفندق فلسطين الذى يسكنه الإعلاميون على نهر دجلة.. فى العراق كنت أصلى لأن يحفظ الله مصر من شر كهذا الذى عشته فى بغداد، لكن الله لم يستجب دعائى، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

تركت كوبرى أكتوبر فى هذه الليلة المشؤومة، وانحرفت نحو كورنيش النيل، على يسارى كانت جحافل أخرى تحرق مبنى الحزب الوطنى، وعلى يمينى كانت محاولات اقتحام مبنى ماسبيرو، ثم بعد هذه المسافة بأمتار، كان الشباب يقطعون الطريق على كورنيش الساحل، ليسمحوا لعشرات من اللصوص بسرقة كل محتويات مبنى «أركاديا مول»، فيما كان شباب الصحفيين فى «اليوم السابع»، يتابعون محاولات اقتحام مبنى المتحف المصرى فى ميدان التحرير، ثم أخيرًا وصلت الدبابات إلى وسط القاهرة، لكن الدبابات ومن فيها، ومَن وراءها، لم تستطع أن تمنع انهيار الدولة ودفعها نحو المجهول.

فى اليوم التالى كنت ضيفًا على برنامج الزميل خيرى رمضان فى التليفزيون المصرى، وفى صحبتى مجموعة من شباب الثورة، بينهم الصديقة إسراء عبد الفتاح، كنت أسأل نفسى قبل الهواء مباشرة سؤالًا حائرًا ومخيفًا.. فى أى معسكر أنا اليوم؟



2- الخوف والأمل
كنت حائرًا قبل أن أنطق بكلمة واحدة مع خيرى رمضان، كانت إسراء عبد الفتاح كعادتها قوية وصاخبة ولاذعة، لكننى كنت على عكسها تمامًا.. غارقًا فى حيرة أخرى، ولا أنعم بهذا اليقين الفولاذى الثائر الذى تنعم به إسراء آنذاك.. كنت أقاسمها الأمل والرجاء والحلم، لكننى لم أكن أشاطرها هذا اليقين بالنتائج، ولم أنج من مشاعر الخوف التى هيمنت على وجدانى منذ الثامن والعشرين من يناير.

هؤلاء الشباب الذين خرجوا إلى الميادين يعبّرون عن كل ما كنا نحلم به منذ سنوات الجامعة، وطوال سنوات عملنا فى الصحافة.. هؤلاء الشباب هم أبنائى وإخوتى وأصدقائى ورفقاء العمر الذين أثق فى محبتهم لهذا البلد، وأثق أيضًا أنهم على الحق، وأن الباطل فى المعسكر الآخر.
لكننى فى الوقت نفسه غرقت فى هذه الحيرة الوجودية المؤلمة، وتنازعنى الخوف والرجاء معًا فى آن واحد.. رجاء فى مستقبل لهذا البلد يعتقه من رقبة الاستبداد والتزوير والفساد، وخوف على هذا البلد، أن يتصور أنه ناجٍ من كل ذلك ليهوى إلى بئر سحيقة من الفوضى، أو ترث عرشه كتائب من القرامطة الذين لا يتورعون عن قتل حجاج بيت الله الحرام فى صحن الكعبة.

من أنا إذن؟.. وفى أى معسكر أكون؟
كنت أحسد هؤلاء الذين يملؤهم اليقين البرىء بأن القادم أفضل لا محالة، وكنت أشعر بخيبة أمل فى نفسى تحت تأثير الخوف من المستقبل على شيطان الفوضى الذى خرج لتوه من حيث لم نحتسب.

أنا أنتمى حتمًا إلى المعسكر الذى يطالب بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، لكننى أخاف حتمًا من أن يجرفنا الغضب والهرولة نحو هذه الأهداف النبيلة، لنجد أنفسنا فى جحيم جديد من انهيار للدولة، وسقوط للأمن، وفقدان البوصلة الوطنية، فنهرب من الرمضاء إلى النار، وننجو من طاغية إلى طاغية جديد.

ترجمت هذه المعانى فى كلامى لزميلى خيرى رمضان على الهواء مباشرة، وطالبت حينها بما أسميته الهبوط الآمن للثورة، والخروج الآمن للنظام، وعندها انحزت إلى تفويض اللواء عمر سليمان بسلطات رئيس الدولة، والاستمرار فى المفاوضات مع الدولة، لتنتصر أهداف الثورة دون خسائر مؤلمة.

لكن صدمتى حينها أن ما قلته أنا كان يصنف فى قاموس ميدان التحرير باعتباره انحرافًا عن مسار الثورة، وخيانة لدماء الشهداء.. هكذا كانت مشاعر الميدان تلهب ظهور الساسة نحو حل، أى حل، ونحو سقوط للنظام، أى سقوط، دون إدراك للعواقب، ودون تأمل فى نتائج هذا السقوط المدوى على مصر وأمنها ومستقبلها السياسى، بل على الأهداف الأساسية التى رفعتها ثورة يناير نفسها.

الآن صرت أنا ومن يفكر على طريقتى خارج حظيرة الثورة، ولم يكن هذا النوع من الخطاب الإصلاحى موفقًا فى حينها، ولم يكن هذا الطرح السياسى يساوى شيئًا بين الشباب الغاضب إلا خيانة للشهداء، وعدوانًا على مبادئ الثورة.

ها أنا ذا صرت خصمًا لما يجرى فى الميدان، رغم وجدانى المؤمن بأهداف يناير، وها أنا ذا صرت شريكًا فى الفوضى لإيمانى بأهداف يناير، رغم تحذيرى من أن تنجرف البلاد إلى فوضى أعمق.

لم يكن للأفكار مكان فى مصر خلال الأيام الثمانى عشر للميدان، كانت مشاعر الناس تحلق فى جلسة صوفية نورانية، وتأبى الأفئدة أن يقتحم العقل والمنطق خلوتها الربانية التى تشدو بتراتيل الثورة فى التحرير.



3- صدمة ما بعد الانتصار
وسقط النظام فى 11 فبراير، وألهب النصر هذه المشاعر الصوفية الملتهبة لكى تحلم بتغيير عاصف، فكيف يمكن أن يصبر شعب ثائر على قطف ثمار الثورة فى الوقت الذى تخلص فيه خلال ثمانية عشر يومًا من نظام استبد لثلاثين عامًا متصلة؟! كانت الأحلام صوفية كشأن المشاعر فى الميدان، وكانت التوقعات نورانية كشأن قلوب الشباب فى الميدان، أما العقل فاستمر فى منفاه بعيدًا عن هؤلاء المتصوفة الذين يحلمون بانتصار كاسح للثورة فى كل الميادين. بدا الأمر وكأن الشباب سيلتقون مع مصر أخرى عندما يتركون الميدان.. مصر لا مشاكل فيها، لا أزمات فى الخبز أو العدالة أو الحرية أو العمل أو الكرامة الإنسانية، لكن صخرة الواقع كسرت قلوب المتصوفة حزنًا وأسى، وسكن الشجن كل القلوب، ولم تعد قلوب أهل الذكر الثورى ترتاح إلا فى هذه الحضرة الكبيرة داخل الميدان.. صار الحنين للميدان هو المفر من الواقع المؤلم فى أرض الوطن.. صار الميدان وطنًا بكل ما فيه من قيم ومشاعر، وصار الوطن الحقيقى موحشًا بكل ما فيه من آلام ومشكلات وأزمات وحقائق تستعصى عليها مشاعر المتصوفة، وتغيب عنها قلوب أهل الذكر الثورى.

ضاع الثوار واحتاروا كما احترت أنا، وكما ضعت أنا ليلة الثامن والعشرين من يناير.. ضاع الثوار الحقيقيون من هؤلاء الأبرياء الذين هانت عليهم أرواحهم فى سبيل العيش، والحرية، والكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، ولأن أرواحهم النبيلة كرهت الواقع الجديد، قرر كل منهم أن يعود إلى محرابه الصوفى فى وجدانه، فإن دعاهم الميدان لبّوا، وإن لم يدعهم الميدان، صلوا من أجل مصر فى قلوبهم الحزينة.



4- الآن أتحرر
الآن أتأمل ما يجرى بعد ثلاث سنوات مضت.. لم يعد الخوف نفسه على مستقبل مصر يسكن أعماقى، ربما استقر الخوف بعد ما جرى فى 30 يونيو، أو ربما بعد أن سقط الكثير من الأقنعة حولنا، أو ربما بعدما تنبهت عقولنا إلى الكثير من الحسابات الخاطئة. كنا نتصور أن الإخوان قادرون على الحكم، وأنهم قد يفتحون قلوبهم لمصر. كما فتحت مصر قلوبها لهم، لكن الحسابات كلها والآمال كلها سقطت، بعد الإعلان الدستورى للرئيس السابق.. وكنا نتصور أن البراءة الثورية فى الميدان تنعم بها قلوب بعض محترفى السياسة، لكن هذه البراءة تحولت إلى استعلاء مفرط من قلة محدودة، وقادت هذه القلة صورة الثورة إلى الدرك الأسفل من جحيم السخط الشعبى.. كان الغرور التليفزيونى، والاستعراض بالحشد هو سيد الموقف تحت نفس الشعارات الثورية النبيلة، لكن هذه الشعارات ابتذلت، تمامًا كما ابتذل الإخوان صورة الدين وقيمته فى القلوب، وتستروا به نحو أهدافهم السياسية الضيقة.. الإخوان كسروا قلوبنا حزنا، وبعض من تجار الثورة فى المعسكر المدنى خذلونا بالغرور والاستعلاء والمصالح الصغيرة.
أنظر إلى كل ذلك وأسأل نفسى: ما علاقة كل هذا العوار السياسى والأخلاقى الذى جرى منذ يوم الثامن والعشرين من يناير، أو الذى جرى بعد يوم 11 فبراير، حتى سقوط نظام مرسى، بكل القيم الأساسية النبيلة لثورة يناير؟

كأننى الآن أصل إلى الحسم الذى افتقدته فى تلك الليلة، عندما دخلت إلى الاستوديو على الهواء مباشرة مع خيرى رمضان.. الآن لم أعد أشعر بالحيرة نفسها التى اجتاحت وجدانى تلك الليلة.. لست خائفًا على مصر كما كنت خائفًا حينها.. الفوضى لم تعد شبحًا يهددنا، كما كان عليه الحال آنذاك.. الآن أقول إن هذه الثورة غمرتنا بالأمل والحرية والمشاعر الوطنية الجارفة، وإن الخوف الذى حال بيننا وبين انتصار حقيقى لقيم يناير، لم يعد قائمًا على أرض الواقع، ولم يعد ساكنًا فى القلوب.. هذه الفوضى صنعتها أيدٍ خبيثة عن عمد، حتى تستأثر بغنائم الانتصار وحدها غصبًا وقهرًا وظلمًا وعدوانًا.

كان أبناؤنا وإخوتنا فى ميدان التحرير يرسمون حلمًا جميلًا لهذا البلد، ويرفعون قيمًا خالدة من أجل القلوب المعذبة من أبناء هذا البلد، فيما كانت الأيدى الخبيثة تخون ثباتهم التاريخى، وتخون مشاعرهم المخلصة، وتخون تضحياتهم الجسورة، وتخون أيضًا شعارات الثورة فى تجارة بخسة خارج حسابات هذه القلوب الطيبة للملايين التى خرجت فى يناير.
مرة أخرى أنظر إلى كل ذلك، وأسأل نفسى: ما علاقة كل هذا العوار السياسى والأخلاقى بكل القيم الأساسية النبيلة لثورة يناير؟
أنا لم أعد أشعر بالحيرة.. صرت حرًا باسم ثورة يناير للمرة الأولى.
أنا لم أعد أشعر بالخوف.. صرت مطمئنًا على أمن بلادى للمرة الأولى.

أنا لم أعد مرتبكًا كما كنت فى هذه الليلة المظلمة فى الثامن والعشرين من يناير.. الآن أشعر بأن ثورة يناير عمرها ثلاث سنوات كاملة.. هذه الثورة لم تنته فى 18 يومًا، لكنها ثورة طويلة المدى طهرت نفسها بنفسها، وانتصرت قيمها النبيلة فى نهاية الأمر.. انتصرت قيمها حتى لو بدت بعض الوجوه مهزومة من حولها.. انتصرت ليبقى ما ينفع الناس ويمكث فى الأرض، ويذهب الزبد جفاء غير مأسوف عليه أبدًا.

الآن أقول بقلب مطمئن بعد ثلاث سنوات مضت: أنا أرفع رأسى فخرًا بقيم ثورة يناير.. أنا لن أنظر إلى من باع أو من تاجر أو من خان أو من عقد الصفقات.. أنا لن ألتفت يمينًا ويسارًا إلى أصوات تريد تشويه هذه الثورة النبيلة بالحيل الرخيصة، ولن ألتفت إلى أدعياء الثورة الذين أرادوا إفسادها لمصالح ضيقة، أو بالغرور الجاهل والاستعلاء السياسى المخيف.. أنا أنظر فقط إلى القيم التى رفعتها الثورة، وإلى المبادئ التى عملت من أجلها الميادين.
هذه الثورة ملكى أنا، وملكك أنت، وملك أبنائك من بعدك، وملك حتى هؤلاء الذين لا يدركون قيمها الأساسية التى خرج أبناؤنا من أجلها فى الميادين.. هذه الثورة ملكى أنا، وملكك أنت، وملك مصر، لا يعبّر عنها أحد، ولا يمثلها أحد، ولا يتحدث باسمها أحد، حتى هؤلاء الذين أصابهم غرور السلطة، أو الذين أطاحت بهم مصالحهم الصغيرة.. هذه الثورة ملكنا جميعًا، لأنها ببساطة ثورة تنطق باسم نفسها بقيمها الخالدة التى كانت وستكون دائمًا عنوانًا للحل الوطنى الشامل فى بلادنا..
«العيش، والحرية، والكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية».



5- نبلاء وخونة
حين أراجع حيرتى ليلة الثامن والعشرين، مقابل يقين إسراء عبد الفتاح، ثم أراجع يقينى أنا مقابل حيرة إسراء عبد الفتاح اليوم، تتداعى إلى ذاكرتى كل الأحداث مع الذكرى الثالثة ليناير.. أسأل نفسى مجددًا: هل كنت أنا على خطأ آنذاك، أم كانت صديقتى إسراء هى المخطئة؟
أتذكر بكاء وائل غنيم على الهواء.. وأتذكر فى المقابل بكاء الكثير من الأمهات وربات البيوت على شاشات التليفزيون بعد الخطاب الثانى لمبارك بعباراته المؤثرة التى كادت أن تعصف بالميدان، وتطيح بمن فيه من المعتصمين.. وأتذكر أيضًا وجوه الشباب الذين اعتصموا بالتحرير أملًا فى الحرية، هذه الوجوه التى لم نرها بعد الأيام الثمانى عشر.. الوجوه الطيبة النبيلة التى شاهدناها لمرة واحدة فقط، فى زيارة قصيرة للتحرير، أو عند مرور الكاميرات على المعتصمين فى الميدان.. هل يستحق هؤلاء النبلاء أن يدفعوا ثمنًا لخيانات الساسة من حولهم؟، هل يمكن أن نعتبر ثورة يناير عنوانًا للفوضى، بينما كان أبناؤها الطيبون الذين لم يعرفوا أسماء الأحزاب أو أسماء ائتلافات الثورة التى نشأت بعد ذلك، يتطلعون إلى وطن حر تتوفر فيه فرص العمل، وينعم أهله بالعيش والعدالة؟

هل يستحق هؤلاء النبلاء الذين دفعوا أرواحهم ثمنًا للحرية فى يناير، أن يتم التعامل معهم اليوم باعتبارهم الطابور الخامس الذى تورط فى حروب الجيل الرابع على مصر؟، ما الذى يعرفه هؤلاء الطيبون عن حروب الجيل الرابع، وما الذى يعرفه هؤلاء النبلاء عن صفقات الإخوان، أو غدر التمويل الأجنبى، أو معنى التجارة باسم الدين، أو التجارة باسم الديمقراطية، أو التجارة باسم الحريات وحقوق الإنسان؟

هؤلاء الذين كانوا يعبرون طرقات بلادهم الخطرة نحو ميدان التحرير فى الخامس والعشرين من يناير، لا علاقة لهم بما جرى ليلة الثامن والعشرين.. والشعارات التى رفعها هؤلاء الطيبون من أبنائنا، لا علاقة لها بحروب الجيل الرابع، والأيدى التى شاركت فى تنظيف ميدان التحرير صباح اليوم التالى للتنحى، لم تتلوث أبدًا فى هذه الخيانات المزعومة للطابور الخامس، أو الطابور السادس.

لم يكن هؤلاء الشباب شرًا على مصر، بل كانت الأيدى الخبيثة من ورائهم هى عنوان الشر.. ولم يكن هؤلاء الشباب متورطين فى حرائق الأقسام، أو اقتحام السجون، أو سرقة المولات التجارية، أو اقتحام المتحف المصرى، أو الاعتداء على البنوك.. كان الشباب فى الميادين، بينما كان اللصوص فى غرف الصفقات، والعملاء فى أوكار التجسس، والسياسيون فى ساحات الصفقات.



ما ذنب «يناير» وأهلها إذن بما جرى بعد ذلك؟

الآن أنت وأنا يجب أن نرى ذلك بوضوح بعد أن اطمأنت قلوبنا على مصر.. الآن أنا وأنت يجب أن ندرك أن هؤلاء الذين خرجوا يوم الخامس والعشرين، أو فى صباح يوم الثامن والعشرين، لم يسألوا أوطانهم أجرًا على ما بذلوه من عمل، لكنهم خرجوا من أجل هذا الوطن، والآن أنت وأنا يجب أن نؤمن بأن هؤلاء الشباب لا يمكن أن يتحملوا أوزار ما جرى فى الليلة المظلمة فى الثامن والعشرين من يناير، أو فى السنوات المظلمة التى تلت الحادى عشر من فبراير.
كما لهذه الثورة تجار وخونة وعملاء وسماسرة، فإن لهذه الثورة نبلاءها وشرفاءها من أبنائنا الذين حلموا لنا بالحرية، وحملونا إلى هذه الحرية.

الآن أقول إننا يجب أن نميز- قطعًا- بين قيم يناير، ومخلصى يناير، وجماهير يناير، وتضحيات يناير، وبين هؤلاء الذين لعبوا بالعقول منذ فوضى الثامن والعشرين حتى الثلاثين من يونيو.
هذه ثورة واحدة أصلها ثابت وفرعها فى السماء.. وكما كانت الحيرة تجتاح قلوب هؤلاء الخائفين على أمن مصر من أمثالى، فإننا يجب ألا نترك أبدًا شباب يناير يعيشون الحيرة نفسها اليوم، ويظنون أن تضحياتهم ذهبت سدى، أو أن نضالهم من أجل العيش والحرية لم تعد له قيمة تذكر اليوم.

أنا أقول لهؤلاء المخلصين من أبنائى: لا تهنوا ولا تحزنوا أيها النبلاء الذين خرجتم من أجل بلادكم فى الخامس والعشرين من يناير..
لا تبتئسوا يا إخوتى الذين عبروا الطريق من شارع الجلاء نحو ميدان التحرير، رافعين شعارات الحرية.. أو من ميدان الدقى إلى كوبرى قصر النيل، أو من مسجد الاستقامة إلى مسجد عمر مكرم..

لا تبكوا على الوجوه التى تساقطت من حولكم، وارفعوا رؤوسكم من جديد، لأنكم بعد ثلاث سنوات كاملة، رسختم قيمًا أساسية فى ضمير هذه الأمة.. هذا هو انتصاركم الأكبر، ولأنكم بعد ثلاث سنوات مكتملة جعلتم من هذه الشعارات النبيلة دستورًا تتوارثه الأجيال.. هذا هو انتصاركم الأهم والأبقى والأقدس.

هذه ثورة انتصرت بالفعل، فافرحوا بما آتاكم الله من فضله، وحافظوا على قيم ثورتكم النبيلة، ولا تنظروا إلى الوجوه القبيحة من حولكم، من الذين ظنوا أنهم عادوا للثأر، أو من الذين توهموا أنهم يتاجرون بأحلامكم الكبيرة، أو من الذين يخادعون الله ويخادعونكم زورًا وبهتانًا.
الآن أنا أنام مطمئنًا على أمن بلادى بعد 30 يونيو..
والآن أنا أحيا رافعًا رأسى بالقيم التى رسختها ثورة يناير..
والآن أنا أحلم بأن نحمل الثورتين من الميادين إلى المؤسسات..
حان الوقت لكى يعلو صوت العقل بيننا، فلا نتراشق بالثورات، أو نتنابز بالألقاب، أو يظن كل منا أن حيرة الآخر خيانة، أو أن ثورة الآخر غدر، أو عمالة.. الآن حان الوقت لكى تنتقل الثورتان من الحالة الصوفية النورانية إلى ثورة العمل والرقى لهذا البلد الجريح..
اسلمى يا مصر.. إن شاء الله.


















مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة