الذكرى الثالثة لثورة الخامس والعشرين من يناير غدًا.. إذن مرت ثلاث سنوات.. الذين كانوا فى الميدان يتداعى عليهم كثير من الذكريات، ويختلط الثلاثاء الخامس والعشرين من يناير بالجمعة الثامن والعشرين، جمعة الغضب، وكيف مر كلا اليومين.. سهولة الثلاثاء حتى انتصف الليل، وبدأ الهجوم الغبى على المحتشدين بالميدان، وإلقاء القبض العشوائى عليهم، ونقلهم إلى معسكرات الأمن المركزى، بعيدًا عن القاهرة، وحكايات لم توثق كلها حتى الآن، واضطرام الجمعة بالغضب فى كل الطرقات حتى استسلام جنود وزارة الداخلية، والهرب أو الفرار، وانفتاح الطرق إلى ميدان التحرير، ودخول العائدين إلى وطنهم!
لن أعيد مشاهداتى، فقد كتبتها فى كتابى «أيام التحرير»، وكتبت عنها كثيرًا، لكن مشهد الدنيا بعد اختفاء قوات البوليس لا أنساه، كيف اتسعت فبدت لى البنايات كلها بين فراغ كبير من الضوء الحنون، كأن الشباب المصرى ينزل إلى الأرض من السماء، يجرى منتشيًا إلى مركز الحياة ليقف معلنًا انتصاره على ظلم بدا راسخًا على الأرض كأنه قدر لا فكاك منه.. أجل، لم أرَ ما يحدث حولى ذلك اليوم، ثورة شعب على حكام، لكن ميلاد شعب جديد يخلقه الله الآن وليس قبله أحد شوه الأرض ومن عليها.. من هنا كان صمتى ودموعى تترقرق فى عينى، وأنا أرى الداخلين إلى الميدان عائدين إلى الوطن، ولا بد أن هذا كان شعور كل الزاحفين إلى الميدان بعد أن قدموا من كل شوارع القاهرة والجيزة، ولابد أن هذا كان شعور كل المصريين فى المدن الأخرى وميادينها.. كل من عايش الثمانية عشر يومًا اطمأن إلى المستقبل، إذ رأى المصريون فيها أعظم صور الإنسانية فى بلاد لم يعد فيها ما يسمى بالأمن، فامتلأت بالأمان يملأ النفوس والأرواح رغم ما جرى من عمليات نهب، وما كنا نراه أو نقرأ عنه بعيدًا عن الميدان، ونعرف أنه مؤقت وعابر وطبيعى لمن عاشوا تحت خط الفقر والقهر، ولم يعودوا يمثلون شيئًا فى أيقونة الثورة التى ترفع وجهها إلى السماء تشهد العالم على معجزة وإعجاز ما جرى بشعارها «السلم فى مواجهة السلاح».. رغم كل ما جرى، فإن أعظم وصف لأيام الميادين أن كل ميدان كان المدينة الفاضلة على الأرض، لكن الثورات كالمدن الفاضلة حقًا لا تتحقق طول الوقت.. الثورات بعد أن تحقق أكبر أهدافها، وهو خلع رأس النظام، تكتشف أنه كان أسهلها، لأن النظام- أى نظام- يكون قد ترك خلفه فسادًا راسخًا على الأرض، فما بالك بنظام طال لثلاثين سنة.. كل ما جرى بعد ذلك طبيعى جدًا، رغم أن ذكرياته أكثر إيلامًا، فشهداء ما بعد ثورة يناير مثلًا هم شهداء الغدر أيضا، لسبب بسيط أن الثورة لم تمش فى طريقها الصحيح بعد ذلك.. الذين دعوا إليها، وقاموا بالدور الأعظم فيها تركوا الحكم لمن فيه أو لمن يأتى ممن عاشوا فى ظل أفكار النظام السابق ولها، مهما بدا عليهم من اختلاف معه.. لهم أجندات قديمة رثة لا تصلح لهذا العصر الجديد الذى فاجأ الجميع.. اكتفى الشباب بموقع الضمير بعد نظام أفسد كل الضمائر، وكان السؤال الذى يواجهنى دائمًا عند الحديث عن الثورة أنها ثورة بلا قائد ولا قيادة، وكنت أجيب دائمًا بأنه سيكون لها مع الوقت والممارسة السياسية، سيظهر من يلتفون حوله من بينهم ويؤيدونه فى مواجهة كل القديم، لكن مرت ثلاث سنوات ولم يحدث هذا، ومن ثم زادت المطامع والطامعين.. أولهم كان «الإخوان المسلمين»، ونجحوا فى الوصول إلى الحكم بفضل براءة الثوار أيضًا الذين اعتبروا الجماعة فصيلًا وطنيًا بما تعنيه الوطنية من معان سياسية وليس مجرد الميلاد. وصلت ليبرالية الثوار إلى أوسع مدى ممكن، وفى السياسة لا يصلح هذا الاتساع، من العدو إذن؟ تكشفه التجربة، وكشفته، وكان دمًا ولا يزال، والقطاع الأكبر من الشعب الذى لم يتأخر عن تأييد ثورة يناير لابد أن يتعب أو يضطرب ويختل، إلى متى ينتظر القطاف؟ متى تونع الثمرة؟ لا إجابة.. وهكذا صار المجال متسعًا ليظهر أنصار النظام القديم بعد أن رأوا الثورة على الإخوان، ويريدون أن يحتلوا صدارة المشهد.. اختاروا أن يكون ذلك بتشويه ثورة يناير نفسها.. الثعالب لا تنسى الكروم، خاصة وقد ترهل الوقت، وفى هذا الترهل فرصة للثعالب لأن تنشط من جديد.. اختار الثوار الانتهاء من تجربة الإخوان الفظة والتافهة، لكن أين هم؟ من يمكن أن يكون فى موقع الصدارة السياسية والفكرية؟، سؤال الرجل العادى.. فى الانتخابات الأولى للرئاسة ابتعدت الغالبية العظمى من الشباب عن المرشح الشاب خالد على، ابن المجتمع المدنى الذى كان له دوره الكبير فى الثورة، وانقسموا بين رجال العهد السابق، فى الوقت الذى يشتمون فيه الأجيال السابقة، العواجيز، على كل المواقع. وهكذا تبادل العواجيز بلغة الشباب المواقع القيادية بالانتخابات أو بغيرها، وينتظر الشباب نتائج طيبة فلا يجدون فينتفضون.. حدث هذا منذ الدكتور عصام شرف، أول من اختاره الثوار من الميدان كما قيل، وما زال يحدث.. صحيح فى الشباب قوة وقدرة على التجدد والاستمرار، لكن بقية الشعب.. آباؤهم وأمهاتهم بشكل أو بآخر لم يتعودوا على الثورات.. العالم العربى كله لم يتعود إلا على الانقلابات التى تمسك بالحكم، وتفعل ما تريد.. يبحث الشباب عن الأجمل، ويبحث الناس العاديون عن الراحة، وهذا تناقض كان يكفينا منه- لو استطاع الشباب عبر السنوات الثلاث الماضية- تقديم بدائل فى كل مجال، من رئاسة البلاد إلى رئاسة المحافظات، ورغم أن هذا موجود بينهم فإنهم منقسمون بين الأجيال الأقدم، بين العواجيز الذين يشتمونهم.. ستدخل الثورة مرحلة جديدة باختيار رئيس جديد لن يكون شابًا ولا من بينهم أيضًا، وستكون المعركة الأكبر هى انتخابات مجلس الشعب، وهل سيستطيع الشباب النفاذ إليه بأعداد كبيرة تحافظ على إنجاز شعارات الثورة، وإذا حدث ذلك فسيكون الصدام بين المجلس الشاب والرئيس الذى مهما حاول أن يتجدد فلن ينسى ما تعود عليه منذ زمن قديم.. لن يستطيع أن يتخلص من قناعاته التى هى فى دمه ولا يراها خاطئة، لن يستطيع أن يتخلص من فكرة الصبر، وإعطاء الفرصة، وربط الحزام للفقراء الذى ينتهى عادة بربط الأفواه، وإذا لم يستطع الشباب الوصول بكثافة لمجلس الشعب فستكون المعركة من جديد فى الشارع، وفى الحالتين لن تهدأ البلاد، و«التالتة تابتة» كما يقال!