يظل نموذج الثورة المصرية هو النموذج الذى يجب أن نظل متمسكين به كثوار وكمواطنين وكقوى اجتماعية تتنافس اليوم على مصير الثورة، وأقصد بشكل واضح أن الثمانية عشر يوما التى توحد فيها المصريون جميعا بلا رايات ولا اتجاهات ولا اختلافات لهدف واحد هو سقوط نظام الطاغوت إلى الأبد، فمع سقوط طاغوت مبارك فلن يكون ثمة طاغوت آخر، فإذا سقط كسرى فلا كسرى بعده، وكان كسرى يسمى شاه شاه أى ملك الملوك، وهو بذلك ينتزع كأى مستبد صفة من صفات الله لينسبها زورا وبهتانا لنفسه، وكذلك الطاغوت يعنى مجاوزة الحد لمن اعتقد أنه يملك صفة من صفات الله ملكا كان أو شيخا لطريقة أو زعيما لجماعة.
وكأن الثورة المصرية فى 25 يناير كانت تستبطن معنى التوحيد، أى إعادة حق الله له بعد أن ادعاه بشر بالباطل لأنفسهم، كما عبرت عن وحدة الأمة والاعتصام بحبل الله المتين بعيدا عن التشرذم والتفرق، والتحزب، والتشيع، والتوحد فى مواجهة الطاغوت هو كسر لخطته «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا»، والثورة هى التى أعادت للشعب حقه فى أن يكون هو صاحب الحق الأصلى فى النيابة عن الله فى إقامة العمران وتحقيق الاستخلاف، فلا نخبة ولا جماعة ولا فئة ولا طائفة ولكن الشعب كله هو الذى يقرر مصيره، ويتخذ قراره فى ممارسة السلطة التى أوكلها الله إليه «إِنِّي جَاعِلٌ فى الأَرْضِ خَلِيفَةً»، «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْجِبَال فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَان»، وهنا نتحدث عن البعد الإنسانى فى الثورة التى وحدت كل الفئات على اختلاف مشاربها وجعلت منهم كلا واحدا هو «ارفع راسك فوق أنت مصرى»، إعادة الاعتبار لقدرة الإنسان المصرى البسيط على الفعل والتحدى وتحديد مصيره ومستقبله.
كانت الثورة تحديا لنموذج التغيير عبر التنظيمات السرية وعبر التنظيمات الرأسية التى تقرر نخبها أنها تملك نموذج التغيير نيابة عن الشعب، وأنها هى الحامية والحارسة لتطبيق ذلك النموذج على الناس وعلى المجتمع وعلى الأمة، ولذا حين انتقل الإخوان برؤيتهم التنظيمية إلى السلطة ظنوا أنهم سيفرضون ما يرونه نموذجا على الناس الذين منحوهم الفرصة دون مشاركتهم جميعا، ودون تحقيق التوافق والرضى العام بين كل مكونات أبناء الأمة والوطن وهم من صنع الثورة، لقد حاولوا العودة مرة أخرى إلى نموذج تهميش الأمة وتغليب مصالح جماعة على مصالح المجتمع كله، ولذا تردد الناس فى المضى قدما لنموذج بدا أنه يهدد نموذج ثورتهم الأصلية، ثورة الجماعة والأمة جميعها، وحين خرج الإخوان من السلطة يريدون العودة بنفس منطق ما قبل ثورة يناير التى حررت الإنسان المصرى من خوفه ووهم أن النخبة هى التى تناضل نيابة عنه، وأن مصيره يقرره غيره، الناجح هو من يكون من طينة الشعب ومعه ولا يتحدث باسمه وهو يريد أن يوظف نضاله لصالح نخبته أيا كانت.
كانت ثورة يناير عريقة فى سلميتها وعظيمة فى نبل شبابها ونقائه والذى جعل من ميدان التحرير طوال الثمانية عشر يوما نموذجا لإمكانية أن المصريين قادرون على أن يصنعوا المعجزات لو أتيحت لهم الفرصة، فكنا نرى الشباب ينظف الميدان، ونراه يتكافل مع بعضه، ونرى الجميع كأسرة واحدة لا تعرف تمييزا بين أحد والآخر، ولم يعرف الميدان حالة تحرش واحدة، كان سحر الثورة وجمالها أخاذ بمجامع النفوس فأخرج من بين جوانحها أنبل وأجمل ما فيها، وكان الاستعلاء بالمعانى والقيم والروح هو الذى حقق الانتصار وأزاح المطامع والمطامح، وجعل الجميع يستعيد هويته كمصرى، ويستعيد الأمل والثقة فى مستقبل أفضل لبلده ولأولاده وأمته. الثورة لم تكن احتفالا ولن تكون ولكنها مسيرة لنضال مستمر لن يتوقف إلا مع تحقيق أهدافها فى الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والمساواة بلا تمييز بين جميع المصريين.