ثلاثة أعوام مرت منذ ثورة يناير، لقد كانت حقا أعواما فى غاية الثراء، مع كل تلك الأحداث التى ذخرت بها هذه الأعوام المنصرمة انصرف كثير من الأقلام والألسنة للتعليق اليومى على الحدث والموقف والأزمة التى ربما لم يخل منها يوم من أيام مصر ما بعد الثورة، والانسياق الكامل للنظرة اليومية والتحليل الآنى المباشر يشبه أحيانا وإلى حد كبير سلوك المعلق الكروى الذى تعد مهنته الرئيسية التقاط كل شاردة وواردة فى مباراة كرة القدم ليعلق عليها ويصنع من حبتها قبة.
وكلما ازدادت درجة إثارية المعلق وحدة حماسته التى تحول تمريرة عادية أو فرصة ضائعة إلى صراخ يملأ الشاشات ويلهب مشاعر الجماهير كلما علا ثمنه وتقدم موقعه بين معشر المعلقين وتعالى الطلب عليه، ذلك لأن الجميع يعلمون فى قرارة أنفسهم أن الجزء الأكبر من الاستمتاع بالمباراة إنما هو من خلال حماسة المعلق وفى خلفيتها صيحات تتعالى من المدرجات وأنه إذا خفض صوت التلفاز وتابع المباراة صامتة فإن أثرها ولذتها فى نفسه ستتناقص جدا.لكن فى النهاية تنتهى المباراة وتهدأ حماسة الجماهير ولا يبقى فى الأذهان شىء من حماسة المعلق وثنائه على كل تسديدة أو تمريرة لا يتبقى فى الأذهان إلا هدف جميل أحرزه لاعب (حريف) أو نتيجة حاسمة جاءت ببطولة كبرى إلى الفريق الفائز.. هذا فى دنيا الكرة.
وفى الواقع أيضا كم من مقالات كتبت وكم من تصريحات أُطلقت وكم من كلمات اشتهرت وملأت الدنيا ضجيجا وعراكا على إثرها ثم هدأت الأمور ونسى الخلق ما حدث ومرت العاصفة إلى حين تتفجر بعدها من جديد ويقع الناس معها فى نفس والاستثارة وردود الأفعال التى كانت فى العاصفة السابقة وهكذا دواليك.
وفجأة ودون أن تشعر تجد نفسك محاصرا داخل أسوار المحدودية والآنية وتنظر من حولك فلا ترى إلا جدران صندوق صرت أنت وفكرك حبيسين بداخله.. صندوق معتم به فتحات ضيقة لا ترى من خلالها إلا ما يُراد لك أن تراه ولا يخرج منه إلا نتاج قصير الصلاحية رغم إثاريته إلا انه يفقد طعمه وصلاحيته للاستعمال الآمى بمجرد حدوث عاصفة جديدة، لا شك أن كل المغيرين فى العالم كانت لهم آراء سياسية ولا ريب أن كل المصلحين والأدباء والمفكرين كان لهم تعليقات على الأحداث وكانت لهم تحليلات يومية أورؤى لحظية ترتبط بما يمر بهم وبمن حولهم من ظروف ومتغيرات لكن ماذا بقى؟ ماذا غيَّر؟ ماذا أثَّر؟ إنه النتاج الفكرى، عصارة الخبرة وخلاصة التجربة ورحيق الفائدة المستقاة من الحدث نفسه، هذا هو ما يترك أثرا حقيقيا وهذا هو ما يغير المسارات ويصنع التاريخ.
أما التأريخ اللحظى والرأى الإثارى قصير الأمد الذى جعله الانفتاح السياسى والصراع المحتدم يطغى على المنظرين وأصحاب الفكر والقلم فلا يلبث إلا ويأخذ بعد فترة صورة جلسات النميمة اليومية التى يتلذذ بها أصحاب وصاحبات الفراغ الوقتى والفكرى وهذا إن لم يهدم فإنه لا يبنى، وبناء الإنسان وعقله وفكره هو اللبنة الأولى لبناء الأوطان.
هذه ليست دعوة لهجر الواقع ولا لترك التعليق عليه ولكنها دعوة للتوازن وعدم هجران أو حقران الجانب الفكرى البنائى التنظيرى الذى ينبغى ألا ينسينا إياه ذلك النسق المتكرر وتلك الدوائر المغلقة التى ظللنا ندور فيها والصناديق المعتمة والأسوار الضيقة التى بنيت حولنا وألا تحاصر أقلامنا خلف تلك الأسوار أو أن تحبس فى تلك الصناديق الضيقة، فلنبذل ولو محاولات متفرقة للخروج من صناديق اليومية أو اللحظية الآنية إلى آفاق أكثر رحابة نستقى بها من خلال ما يحدث فوائد عامة وقواعد فكرية مطلقة تكون بعد أن تضع المعمعة أوزارها عونا لمن أراد أن ينتفع بتلك الأعوام الثرية وما مرت به الأمة فيها من منحنيات ويظل معناها وما فيها من الفوائد والعبر والقيم بعد زوال تلك العواصف صالحا للاستعمال.. الآدمى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة