قضى الحجيج عبادة من أعظم العبادات، وركنًا من أركان الإسلام الخمسة، تجردوا فيها لله من كل شىء حتى من المخيط، وذُرفت دموع التوبة فى صعيد عرفات ترجو الغفران من رب الأرض والسماوات، وعلت الأصوات بالتكبير والتهليل فى كل بقعة طاهرة من الأماكن المقدسة، وطاف الجميع بالكعبة، وسعوا بين الصفا والمروة فى رحلة من أفضل رحلات الدنيا وأعذبها، وأخفها على النفس؛ حتى وإن صاحبها التعب البدنى والمشقة، كلهم يرجون غفران الذنوب ليعود بعدها الحاج مغفورًا له كيوم ولدته أمه كما أخبرنا الصادق المصدوق، يفتح فيها الحاج صفحة بيضاء مع الله ومع عباد الله، وقد قُبل حجه وغفر ذنبه بإذن الله، قال الحسن البصرى رحمه الله: «الحج المبرور هو أن يرجع صاحبه زاهدًا فى الدنيا راغبًا فى الآخرة»؛ لذا يجب أن يكون حجُّنا باعثًا لنا على المزيد من الخيرات وفعل الصالحات، وحاجزًا لنا عن المواقع المهلكات، ومانعًا لنا من الوقوع فى الآفات والمخالفات.
وبعد العودة من هذه الرحلة الروحية والعبادة التى تجتمع فيها مختلف العبادات البدنية من طواف وسعى ووقوف بعرفة ورمى الجمار وغيرها، وكذا المالية التى تتمثل فى بذل المال فى ذبح الهدى وبلوغ الرحلة؛ لا بد وأن تستوقفنا مجموعة من الدروس المستفادة من هذه الرحلة العظيمة تكون هاديًا لنا فى طريقنا، وحاكمًا لكل تعاملاتنا مع الله ومع الناس.
طالبنا فى بداية موسم الحج بأن يتفاعل الخطاب الدينى مع المناسبات الدينية، ويستخلص منها الدروس والعبر، لتضبط لهم إيقاع حياتهم وتوجههم إلى المنهج النبوى الكريم، وسقنا بعض الدروس المستفادة من الحج، نكملها اليوم بعد أن انقضى الحج، وعاد حجاج بيت الله الحرام إلى بلادهم لنؤكد لهم أن هذه العبادات موصولة لا تنقطع بالرحيل عن المشاعر المقدسة.
ولعل تحقق تقوى الله عز وجل فى هذه الرحلة يعد درسًا مستفادًا من هذه العبادة الروحية المادية؛ لأن المسلم بأدائه لهذا الركن العظيم يكون قد حقق معنى التقوى بالتزامه طاعة الله تعالى، واجتنابه ما نهاه عنه من المعاصى، واجتناب الرفث والجدال، لقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)؛ فالحاج قد أفرد الله تعالى بالعبادة ولم يشرك معه شيئًا فقال: «لبيك لا شريك لك لبيك»، وعليه فلا بد أن تتحقق التقوى فى أقوالنا وأفعالنا وتعاملاتنا لنحظى برضا الله تعالى، وكما أن الحج لا رفثَ فيه ولا فسوقَ ولا جدال، فيجب أن يكون هذا هو سلوك المسلم وخُلقه فى غير الحج، فقد وصف النبى صلى الله عليه وسلم المسلم بقوله: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلاَ اللَّعَّانِ وَلاَ الْفَاحِشِ وَلاَ الْبَذِىءِ»؛ فأيها المسلم احذر الأفعال القبيحة، والزم الأعمال الطيبة، تنل رضا الله فى الدنيا والآخرة.
وفى خضم ما تعانيه الأمة الإسلامية من تحديات كبيرة يجب على الخطاب الدينى أن يؤكد أن وحدة الأمة ليست بالشىء المستحيل، فهى بالفعل قد تحققت حينما تحقق التجرد لله، وليس ببعيد ما شاهدناه فى الحج الذى حقق وحدة المسلمين وقوتهم رغم اختلاف الألوان واللغات والبلدان، فقد كان فى تجمعهم على كتاب الله تعالى وسنة نبيه، وانتقالهم بين المشاعر ما يلقى الرهبة فى نفس الشيطان ونفوس أعدائهم، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «فما رُئِى الشيطان أصغر ولا أحقر ولا أذل منه فى يوم عرفة إلا ما رُئِى من يوم بدر»، وهذا يغيظ أعداء الرحمن وأولياء الشيطان، ولعل الأمة إن استفادت من هذا الدرس ردت كيد أعدائها الذين يحيكون لها المؤمرات ليل نهار ليغرقوها ويغرقوا أهلها فى سلسلة من العنف والدمار، ولفوتت الفرصة على من يريد شق الصف.
ومما يؤكد هذه المعانى السامية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه»؛ أى من حج ابتغاء وجه الله تعالى بعيدًا عن الرياء أو السمعة، وطلبًا لرضا الله رجع مغفورًا له بغير ذنب، فإنه يُرى أثر الحج عليه ظاهرًا فى سلوكه ومعاملاته مع الله تعالى ومع الناس، وهنا يجب ألا تغادر الحاج هذه السلوكيات بعد عودته من الحج، بل يحرص دائمًا على محاسبة النفس، ويراجع بين فترة وأخرى أسلوب حياته وتعاملاته مع والديه وزوجه وأبنائه، ومع جيرانه وأقرانه فى العمل، ويراجع مصادر ماله وطرق إنفاقها، كل هذا يرجعه إلى ميزان الشرع الشريف، حتى يعود فعلاً كيوم ولدته أمه.
ويبين الخطاب الدينى أنه إذا كان الحاج قد تخفف من ملابسه واستبدل بها لباس الحج، فالأولى له بعد أن يرجع أن يتخفف من الذنوب قدر استطاعته، وأن يتوجه بالشكر لله تعالى بأن أعانه على إتمام هذه الفريضة المباركة (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)، وأن يعتبر الحج نقطة بداية وتحول وتغير فى حياته للأفضل لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، وأن يرجع من رحلته حسن الظن بالله يعاهد الله تعالى دائمًا على التوبة، والثبات على طريق الاستقامة، طريق النبى صلى الله عليه وسلم وسنته، وأن يتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة لإحراز محبة الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم: «وما زال عبدى يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه».
وأخيرًا لا بد للخطاب الدينى أن يحث الأمة على بداية جديدة بصفحة جديدة بيضاء لا تلوثها الذنوب ولا المعاصى، أسوة برجوع الحاج مغفورًا له، بأن نتعلم حتى مَن لم يحج منا، أن نحافظ على مكتسبات الحج بالمحافظة على الصلوات فى وقتها، والصيام، وتطهير أموالنا بالزكوات والصدقات والهبات، وتفقد أصحاب الحاجات من الفقراء والمساكين واليتامى كما كنا نتفقدهم وقت الحج، وأن نعينهم على حياتهم، كما أن علينا أن نزكى أنفسنا بأن تكون مطمئنة راضية لا تعكرها أدواء النفس من الكره والحسد والبغض والحقد، وأن نرطب ألسنتنا بذكر الله تعالى دائمًا، وأن تكون قلوبنا سالمة من الأحقاد والضغائن، ولا ننسى الدعاء؛ فإن الله تعالى قريب يجيب دعاء من يسأله، فكما استجاب للحجيج يوم عرفة لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة»، فهو قريب يجيب دعاء سائليه لقوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).
د. شوقى عبدالكريم علام يكتب: الخطاب الدينى.. ودروس ما بعد الحج.. علينا أن نزكى أنفسنا بأن تكون مطمئنة راضية لا تعكرها أدواء النفس من الكره والحسد
السبت، 11 أكتوبر 2014 08:32 ص
د. شوقى علام
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة