كما كان للقوة الناعمة بمختلف أدواتها دورها فى نشر التواجد الأمريكى فى مختلف أنحاء العالم، لعبت «القوة الناعمة» دورا كبيرا أيضا فى تكريس دور مصر فى محيطها الإقليمى والقارى، وهو ما برز فى حقب تاريخية بعينها، أبرزها فترة حكم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، والذى بدا مدركا وواعيا لتأثير ما تملكه مصر من أدوات للقوة الناعمة تستطيع النفاذ بها إلى محيطها الإقليمى والقارى، كالتاريخ والرصيد الحضارى والثقافة والفنون والمؤسسات الدينية البارزة «الأزهر والكنيسة»، فكان للقاهرة ما كان من دور فى قارة إفريقيا وفى المحيط العربى، بل وعلى امتداد مساحات واسعة من الساحة الدولية، وهى استراتيجية تبدو القاهرة فى أشد الاحتياج لاستعادتها واستنهاض آلياتها خلال المرحلة الحالية التى تمر بها، حيث عاشت البلاد على مدار الأعوام الأربعة الأخيرة ثورتين، أطاحت أولاهما بنظام لم تتوقف أوجه القصور لديه وأسباب الثورة عليه على حجم الفساد الواسع الذى انتشر فى عهده، وطال غالبية مؤسسات وقطاعات الدولة، أو حجم التفاوت الطبقى الذى وصل إليه طوال سنوات حكمه، حتى صارت مقاليد السلطة والثروة فى البلاد فى أيدى قلة قليلة من المحيطين برأس الدولة والمتنفذين فى الحزب الحاكم وقتها، وإنما امتدت أوجه القصور إلى إجهاضه الدور الإقليمى لمصر، وتجاهله لما تملكه من قوى ناعمة، ظلت إحدى أهم أدوات التأثير والنفوذ فى الإقليم لسنوات عديدة، حتى صارت بعيدة عن التأثير حتى فى قضاياها تخص أمنها القومى، كقضية مياه النيل.
خروج المصريين الثانى فى 30 يونيو، أطاح بنظام حكم سعى لاستلاب هوية البلاد لصالح جماعة بعينها، وكان واضحا أنه لو طال عمره فى الحكم لأصاب التشوه ما تملكه مصر من أدوات القوة الناعمة، وفى المقدمة منها الثقافة، والفنون، والعمق التاريخى، وربما فقدان تلك الأدوات، فى ظل ما هو معروف من عداء جماعة الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسى لمثل هذه الأدوات، وتعاملها معها بنظرة تقلل من تأثيرها، وربما ترى فى بعضها تضييعا للوقت والجهد، فيما يصطدم بتوجهات المصريين، التى لطالما دعمت تلك الأدوات، وأبدعت فى ابتكار أشكال لها، سواء كان ذلك حين دعمت الدولة تلك التوجهات فى عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، أو حين لم يكن للدولة المصرية ملامح وقت أن تمت الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق حسنى مبارك، وأسند أمر قيادة البلاد إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، حيث خرجت عشرات من الوفود الشعبية، قاصدة بلادا أفريقية وعربية، فضلا عن بلاد ارتبطت مصر بعلاقات قوية معها فى وقت من الأوقات كروسيا والصين، واستهدفت تلك الوفود استعادة بعض من تلك العلاقات، وجبر الضرر فيما لحق بها فى عهد مبارك، وخاصة فيما يتعلق بالروابط مع القارة الإفريقية، وفى القلب منها منطقة حوض النيل.
نظرية «القوة الناعمة» التى صاغها أستاذ العلاقات الدولية الأمريكى جوزيف ناى قبل سنوات، فى مؤلفه الشهير «القوة الناعمة.. معالم النجاح فى السياسة الدولية»، تضع مجموعة من العوامل لقياس وتحديد مركز الدولة فى محيطها الإقليمى وعلى الساحة الدولية، وفى مقدمة هذه العوامل الاقتصاد والتكنولوجيا والتعاون الدولى والمساحة الجغرافية، وعدد السكان واللغة والثقافة والتاريخ المشترك، وبحسب الباحث الدكتور مصطفى اللباد فإن عامل اللغة كان مؤثرا بالنسبة لمصر مخاطبة أوسع الشرائح السكانية باللغة العربية التى تعد أوسع اللهجات انتشاراً فى المنطقة، كما أن مصر تملك تاريخاً مشتركاً مع غالبية دول المنطقة العربية والقارة الإفريقية، وساهمت فى صياغة جانب كبير من وعى شعوب المنطقة عبر ما تتمتع به من ثقل فى مجالات الآداب والفنون والثقافة، حيث يتم فى مصر إنتاج أكبر عدد من الأفلام السينمائية والمسلسلات التليفزيونية، كما تملك أكبر عدد من الكتب والمقالات العلمية المنشورة.
وبالنظر إلى الوضع فى مصر حاليا، فإن هناك نظاما جديدا، أعلن منذ إسناد مقاليد الحكم إليه أنه يستهدف بناء دولة جديدة، وتحقيق تنمية شاملة، كما أعلن أنه يستهدف استعادة واستنهاض الدور الإقليمى للقاهرة، وهى أهداف يتطلب تحقيقها من بين ما يتطلب، استنهاض كل أدوات القوة والتأثير لدى الدولة المصرية، مع ملاحظة أن عبئا جديدا يضاف على الدولة الجديدة، ويتمثل فى أنها تحتاج إلى استنهاض قواها الناعمة فى النفاذ إلى مواطنيها أولا، لاستعادة العلاقة والروابط والتماسك بين الدولة ومواطنيها، بعد أن أصاب ذلك التماسك شرخ واضح فى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك والسابق محمد مرسى، وبدا أن الرئيس عبدالفتاح السيسى يدرك ذلك بشكل جيد، فجاءت خطاباته منذ توليه الحكم، لتعبر بشكل واضح عن رغبته فى أن يكون أبناء الشعب المصرى شركاء فى معركة إعادة بناء الوطن، كما حملت خطاباته مطالبات مستمرة للإعلام المصرى بأن يلعب الدور المنوط به فى التوعية بأهمية المشاركة المجتمعية فى تحقيق خطة التنمية التى تطرحها الدولة، وتحمل ما قد يترتب على ذلك من تبعات معيشية، تتطلب قدرا من الصبر والتحمل، للعبور بالبلاد من عنق الزجاجة، والخروج بها من أزمتها الاقتصادية، إلى آفاق أرحب من تحسين معيشة المواطنين وتوفير فرص العمل للملايين من أبناء الشعب المصرى، ممن يعانون من البطالة منذ سنوات.
استنهاض دور الإعلام جاء واضحا خلال الفترة الماضية عبر تحفيز المواطنين على المشاركة فى مشروع قناة السويس الجديدة، ومسارعتهم إلى شراء شهادات الاستثمار فيها، رغبة فى أن يكون التمويل للمشروع وطنيا خالصا، وهو ما استجاب له ملايين المصريين بالفعل، مثلما استجابوا لخطوات أقرها النظام الجديد كمنظومة الخبز الجديدة، ومحاولاتهم التعايش مع أزمات كتكرار انقطاع التيار الكهربى والمياه، فضلا عن تقليل حدة المظاهرات الفئوية التى كانت سمة واضحة للسنوات الأخيرة، ومنذ أخريات عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك.
الطريق إلى استنهاض أدوات القوة الناعمة المصرية واستعادة تأثيرها ونفوذها فى محيط البلاد الإقليمى والعربى، بل وحتى لدى فئات داخل البلاد ليس ممهدا، فهناك تحديات كثيرة على الطريق، ومتغيرات عدة يجب على الدولة المصرية الاعتراف بها، والمبادرة إلى ابتكار طرق للتعامل معها، وعلى رأس ذلك تراجع مستوى كثير مما كانت تملكه مصر من أدوات وخاصة فى مجالات الإعلام والفن، فالريادة التى حظى بها الفن المصرى على سبيل المثال، لعقودة عدة باتت تواجه منافسة لصالح بلاد أخرى، والمكانة الثقافية التى حافظت مصر عليها منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى سبعينيات القرن الماضى وكذلك المكانة السياسية التى حظيت بها مصر على سبيل المثال فى قارتها الإفريقية باتت تناطحها فيها دول أخرى، فهناك تبدل للأدوار الإقليمية، ما بين صعود وهبوط، كما أن دولا وكيانات من خارج القارة السمراء باتت تلعب أدوارا داخلها، وسارعت إلى استغلال تراجع الدور المصرى فيها، لصالح تكريس دور لها فى دول القارة، سواء كان ذلك بهدف أن يكون لتلك القوى الخارجية وفى المقدمة منها اسرائيل وإيران وتركيا تأثير ونفوذ فى القارة يرث النفوذ المصرى، أو لصالح تقوية أدوار دول أفريقية أخرى لتحل محل الدور المصرى، أو على الأقل لتكون مصدر توتر ومشكلات له، وهو ما بدا تأثيره واضحا فى أزمة حوض النيل، التى تصاعدت إلى حد تهديد نصيب مصر والسودان من مياه النيل، حتى اتخذ الرئيس السيسى منهج التفاوض فيها مع قادة أثيوبيا، بهدف التوصل إلى توافق يقوم على الإضرار بحصة مصر التاريخية من مياه النيل، وفى الوقت نفسه عدم إعاقة المشروعات التنموية للدولة الأثيوبية.
من التحديات التى تواجه الدولة المصرية أيضا ما عانت منه البلاد من صراعات خلال السنوات الأربعة الماضية، وهى صراعات تلملم الدولة المصرية تداعياتها، بالتواصل مع أطراف دولية وإقليمية، كما جرى فى مشاركة الرئيس عبدالفتاح السيسى مؤخرا فى أعمال الدورة 69 للجمعية العامة للأمم المتحدة، ولقاءاته بالعديد من قادة دول العالم، وحصوله على تعهدات منهم بدعم خطط التنمية المصرية، وتضع تلك الصراعات على الدولة المصرية عبئا إضافيا بمحاولة ترميم تداعياتها على الخريطة المجتمعية والسياسية المصرية نفسها، وما قادت إليه من إضعاف لأدوار الأحزاب السياسية، وتأثيرات على انتظام العملية التعليمية وتراجع مستوى الأداء الإعلامى، وجميعها أدوات كانت هناك حاجة لأن تكون فى أشد درجات اليقظة والاستعداد فى المرحلة الحالية لاستعادة التواصل بين النخب المصرية والنخب فى المحيطين العربى والإفريقى، فضلا عن استعادة دور البعثات التعليمية، وخاصة تلك التى يستقبلها الأزهر أو يرسلها إلى دول القارة، إلى جانب استعادة دور الدبلوماسية المصرية سواء على المستوى الرسمى أو الشعبى، وذلك فى التعريف بما يجرى على الساحة المصرية من جانب، وترميم ما لحق بعلاقات القاهرة بالخارج من أضرار خلال السنوات السابقة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة