يحتفل لبنان هذه الأيام بمئوية المفكر المجدد واللغوى الأديب الشيخ عبدالله العلايلى، الرجل الذى قاد النهضة الفكرية فى لبنان خلال أكثر من خمسين عاما، حارب فيها الطائفية والانقسام والرجعية والاتباعية الدينية المتزمتة، وفى الوقت نفسه، وضع أساسا متينا لتطوير اللغة العربية وتجديدها باعتبارها طريقة التفكير والصلة مع العالم، ووسيلة استيعاب التقدم الحضارى.
والحق أن البلاد العربية والإسلامية كلها يجب عليها الاحتفال بمئوية العلايلى، ليس بإقامة المهرجانات وإلقاء الكلمات، بل بإعادة النظر فى تراث الرجل، وتفعيله فى مناهج التعليم، واعتماده مرجعا فكريا وسياسيا، وتسليط الضوء على أعماله ومخطوطاته وإعادة طبعها، أو نشر ما لم ينشر أصلا مثل معظم أقسام المعجم الكبير، لأننا نحن العرب فى أمس الحاجة لأن نعتبر أفكار الرجل وتراثه.
العلايلى المولود فى 1914 والذى درس بالأزهر الشريف وتلقى الإسلام الوسطى عن شيوخه المشغولين باللحاق بأوروبا خلال النصف الأول من القرن الماضى، اختلط بالمجددين محمد عبده، وجمال الدين الأفغانى وتأثر بهما، وحمل رسالتهما التجديدية إلى الشام، وأضاف إليها الكثير من علمه الموسوعى، ونظرته المنفتحة للإسلام، باعتباره دين النظر والعقل لا الجمود والخرافة، وتوالت أعماله المهمة ومنها «مقدمة لدرس لغة العرب، دستور العرب القومى، مقدمات لفهم التاريخ العربى، العرب فى مفترق الخطر، المعجم الكبير، المرجع.. وكتابه الصغير شديد الأهمية أين الخطأ؟»
وفى هذا الكتاب تحديدا، أين الخطأ؟ يبرز عبدالله العلايلى التحدى الأكبر الذى يواجه الفكر والثقافة العربيين ومعينهما الإسلامى، ولعل شعاره الذى صار مثلا سائرا يمكن أن يقربنا إلى منهجه الطليعى الذى اعتمده فى جميع انشغالاته وإسهاماته فى السياسة واللغة والفكر وفى العمل العام، والحشد لقضايا بلده وأمته، يقول العلايلى: « ليس محافظة التقليدُ مع الخطأ، وليس خروجاً التصحيحُ الذى يحقق المعرفة»، وكم أوقعه هذا المنهج المبدئى فى معارك جانبية مع المتعصبين الدينيين والطائفيين دعاة التفتيت، والمزايدين الذين يحاربون بالوكالة عن أنظمة عربية وغربية، لكنه فى جميع معاركه السياسية والثقافية واللغوية، كان شريفا مبدئيا يقدم المصلحة العامة على أى غرض شخصى.
أسماه خصومه وكارهوه بالشيخ الأحمر، لمناصرته الفكر الاشتراكى، فيما كان يبحث عن جوهر العدالة وسبل تحقيقها فى المجتمعات العربية على الأرض، وسط العصبيات القبلية وإساءة استخدام الموروث الدينى وتأويلاته للتقعيد للاستعباد والقهر والاستغلال، وواصل معاركه دون انشغال أو التفات إلى ما يطوله شخصيا، لكن أكثر ما كان يؤلمه هو منع فكره من الوصول للقراء، كما حدث مع كتاب «أين الخطأ؟» فى طبعته الأولى.
الآن ونحن نعانى من ظلام التطرف وعمائه، ومن هول التشرذم والتفتيت العربيين، ومن الانكفاء الإسلامى نحو برامج مصنعة لتشويه الدين الحنيف واعتمادها باعتبارها أصل الدين زورا وبهتانا، ما أحوجنا إلى فكر العلايلى الذى يجمع الطوائف، ويذيب الاختلافات، ويعلى من شأن جوهر الدين الإسلامى باعتباره رسالة تسامح، تحث على العلم والتقدم ونشر الحضارة والتوجه للعالمين بما ينفعهم.
هل يمكن أن تكون مئوية العلايلى فرصة لنا لنبذ كل تخلف وعصبية وجهل وتطرف وانغلاق، واعتماد التسامح وقبول الاختلاف والحرية الخلاقة التى بشرنا بها الإسلام، والتصالح مع المستقبل برفع راية التجديد والاجتهاد والنظر.. يارب.. آمين.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة