(1)
انتبه السيارة ترجع إلى الخلف..
فى البدء كنت تسمع ذلك النداء القادم من سيارات النقل والميكروباص التى يعشق أصحابها الكماليات و«التزويق»، وتسأل نفسك: هل اهتم السائق بتركيب هذه «التقليعة الصوتية» حرصًا على المواطنين، وإيمانًا بمبدأ الذكرى تنفع الجميع، أم مجرد رغبة منه فى عدم النظر إلى المرآة، ومطالعة حقيقة الوضع فى الخلف؟! تبدو الإجابة واضحة إذا أدركت الشبه بين هذا الصوت التحذيرى من عودة السيارة إلى الخلف، وبين الأصوات التى تملأ أجواء البلاد عزفًا على نغمة واحدة «مصر ترجع إلى الخلف».
(2)
فى تعريفهم للنوستالجيا يقولون إنه مصطلح يتم استخدامه لوصف الحنين إلى الماضى، وهو فى الأصل مصطلح يونانى يشير إلى ألم المريض بسبب الرغبة فى العودة إلى بيته وموطنه، الخوف من أحداث الحاضر المضطربة، وغياب نمط الاستقرار الذى اعتاده البعض، يجعلان من الهروب إلى الماضى خيارًا نفسيًا أوليًا للبعض.
يشبه ذلك ما يحدث فى مصر الآن، ثورتان حملتا معهما أحلام التغيير والتقدم، وساهم رجال السياسة فى ترويجهما بين الناس تحت شعار أن أشجار الجنة ستثمر خيرًا فى ربوع مصر خلال أيام أو شهور، لكنّ شيئًا من ذلك لم يحدث.
(3)
الناس فجأة وجدت نفسها عادت إلى عصر يمدح فيه الإعلام الرئيس دون توقف، وسياسيين يصفون المعارضين بالعملاء والخونة، وخبراء استراتيجيين يتحدثون عن المؤامرات الكبرى، وشرطة تعود إلى سيرتها الأولى فى تسجيل معدلات عليا من الاعتقالات وعمليات التعذيب، وبرلمان تدور مفاوضات تقسيم مقاعده بين مجموعات حزبية وسياسية معروفة بقربها من السلطة، وحكومات يتم تشكيلها وفق التصورات القديمة لدولة مبارك.
هذه الحالة السياسية شكلت رجوعًا إلى الخلف فى وطن ظن أن الثورة ستأخذه إلى الأمام، فوجد أداءً سياسيًا لا يختلف أبدًا عما كان يحدث فى الماضى، فقرر الجميع نفسيًا العودة إلى أشد فترات الماضى القريب استقرارًا وهدوءًا.. التسعينيات!
(4)
وكأن أحدهم يريد تعليمنا أن تلك اللحظة التى ظهر فيها شعار «ولا يوم من أيامك يا مبارك» لم تكن لحظة ضعف نفوس محبطة، أو جماعات مصالح خسرت برحيل مبارك، بقدر ما هى لحظة تعبير عن إحباط من انحراف مسار ثورة وعد أهلها الناس بالانطلاق إلى الأمام، فلم يجد الناس منها حتى الآن سوى الارتباك، ولهذا اندلعت شرارة الردة النفسية إلى التسعينيات، بعضهم ذهب إليها دون وعى، وآخرون ذهبوا إليها اشتياقًا، بينما فئة ثالثة تذهب إليها متعمدة تحقيقًا لمصالح، ورغبة فى إعادة المشهد القديم للشعب الساكن والصامت فى مواجهة الدولة الفاعلة المتحكمة.
كل المشهد التسعينياتى يتجلى أمامك الآن بتفاصيله الفكرية والرياضية والفنية والإعلانية والحكومية لتهيئة الأجواء للهدف الأهم.. عودة الدولة إلى سيرتها الأولى. تجدد معركة التسعينيات حول عذاب القبر والحجاب والكلاب حرام أم حلال، لنعيش نفس أجواء الصراع بين شيوخ الأزهر، وبعض الكتاب والمفكرين، تبع ذلك معركة كنسية حول الاحتشام، وضرورة عدم ارتداء المسيحيات البنطلون فى أثناء القداس.
عادت البلاغات والتقارير الحقوقية تتحدث عن اختفاء بعض المعتقلين، وحالات تعذيب يصعب إثباتها داخل السجون، وحالات قتل بسبب التعذيب، ولكن تقاريرها تصدر كما كانت تصدر فى الماضى، سبب الوفاة هبوط فى الدورة الدموية. تنشر الصحف أخبارًا عن صفقات الزمالك الـ12 التى ينوى من خلالها تشكيل فريق الأحلام، مثلما حدث الأمر فى منتصف التسعينيات، ومعارك مرتضى منصور على الفضائيات، ويظهر حميد الشاعرى مع هشام عباس فى برنامج واحد لإعادة إنتاج ما غنّياه فى التسعينيات، ويعود جورج سيدهم وسمير غانم وشيرين إلى مسرح واحد بجوار نفس «القلة» الخاصة بمسرحية «المتزوجون».
وبدلًا من أن يتكلموا عن إعادة هيكلة الداخلية وتطهيرها، يتكلمون عن عودة عسكرى الدرك، وبدلاً من أن يمنحوا الدولة نهضة اقتصادية، ومشروعات قوية جديدة، عادوا للحديث عن إحياء مشروع توشكى، وبدلًا من أن يمنحوا الناس أفكارًا إعلانية جديدة، دفعوهم للبحث عن أسمائهم فوق علب الكوكاكولا، مثلما دفعوهم من قبل للبحث عن «الجادون» أسفل غطاء زجاجات الكوكاكولا، وبدلًا من أن يضعوا خطة طموحة للوصول إلى كأس العالم، انشغلوا بتصوير برامج جديدة، وإعلانات تتحدث عن هدف مجدى عبدالغنى فى كأس العالم 1990، وبدلاً من أن يشرحوا لنا أسباب تأخر الاستقرار، زادوا من معدلات الحديث عن ضرورة مساندة الدولة وهى تكافح الإرهاب، مثلما كانت تفعل صحف إبراهيم نافع، وسمير رجب، حتى عادل إمام نفسه بدلاً من أن يسير فى جنازة صديقه سعيد صالح قرر أن يستنسخ مشهد التسعينيات حينما ترك سعيد صالح يعانى وحيدًا فى السجن دون سؤال.